× الرئيسية
ملفاتنا
المستشارة
النشرة البريدية
تَواصُل
من نحن
اختر محافظة لتصفح المقالات حلب
الرقة
الحسكة
دير الزور
اللاذقية
طرطوس
إدلب
حماة
حمص
دمشق
القنيطرة
درعا
السويداء
ريف دمشق

عين ثالثة: «الفروق الدقيقة» بين درعا والسويداء

حكاياتنا - خبز 30-10-2020

في نهاية المطاف، لم أتوصل إلى معرفة الفروق الدقيقة، وابتسمت حين تذكرت كم كان المنسفان شهيين، ومليئين بالدسم، والكرم، والحفاوة، والحب، بالطريقة ذاتها

الصورة: (John Phillips - فليكر)

حسناً. لا ضير من الاعتراف بأنني - شأني شأن كثير من السوريين - لم أخرج إلا في ما ندر خارج حدود مدينتي قبل العام 2011، ربما فقط في تلك الرحلات المدرسية التي كانت على الأغلب تتجه نحو مدينة تدمر أو قلعة الحصن في حمص، أو بعض المناطق الأثرية في المحافظات الساحلية. أما المحافظات الجنوبية، والشرقية التي يُطلق عليها اسم «النائية» نظراً لبعدها عن المركز، دمشق، فلم أزرها يوماً.

أيضاً؛ لا ضير من الاعتراف ببعض «أفضال» هذه الحرب! لقد أتاحت لنا نحن - أبناء العاصمة - أن نتعرف إلى طيف واسع من السوريين، بسبب نزوحهم إلى مدينتنا التي بقيت إلى حدّ ما في منأى عن الحرب المباشرة. اليوم أصبح لدي فعلاً أصدقاء من الثلاث عشرة محافظةً الأخرى، وإن كان معظمهم قد تفرقوا مجدداً في أصقاع الأرض.

المرة الأولى في حياتي التي جمعتني بأشخاص من محافظة درعا، كانت في شهر تموز من العام 2011. تعرفت إلى صديقة نزحت مع جميع أفراد عائلتها من إحدى قرى ريف المحافظة، التي حوّمت فوقها طيور الموت منذ الشهور الأولى.
زرتهم مرات كثيرة، قبل أن يغادروا البلاد بعد عام من استقرارهم هنا، ودُعيت إلى منزلهم بشكل خاص لتذوق المنسف الدرعاوي، المكوّن من اللحم والبرغل واللبن والسمن.

كلّما لبيت واحدة من تلك الدعوات السخية كانت الأم تحدثني عن طقوس وعادات ومناسبات تقديم ذلك الطبق الجنوبي الشهير، لأجد نفسي أمام طبقين دسمين: المنسف، وما يدور في فلكه من عادات وتقاليد وطقوس. «يا خالتي هي الأكلة منعملها بكل المناسبات. بالفرح وبالحزن. بالأعراس وبالجنازات. وأي ضيف بيجي لعنا من برا درعا لازم نعمله منسف، هيك أصول الترحيب فيه وبتشريفه لبيتنا». لم أشعر بغرابة الفكرة كثيراً، ففي دمشق أيضاً تخصص بعض الأطباق للولائم الكبيرة، سواء في مناسبات الفرح أو الحزن، لكن العاصمة لا تمتلك طبقاً محدداً شهيراً للغاية، ومرتبطاً باسمها وبحفاوة استقبال الضيف، كما هو حال المنسف الدرعاوي.

في أحاديثنا تلك، التي كانت تدور ونحن منغمسون في تناول الطبق اللذيذ، كثيراً ما ركزت والدة صديقتي على دور اللبن، في المطبخ الدرعاوي، واستخدامه لصنع أطباق عديدة، وشرحت لي طريقة إعداده، وما تشتمل عليه من طقس جميل يجمع سيدات القرية للتشارك في التحضير. إنها عملية معقدة، تتطلب فصل اللبن عمّا يحتويه من دسم وماء بطريقة «الخضّ»، أي التحريك بقوة، ثم الغلي والتجفيف على مراحل، وفي النهاية التخزين ضمن شروط معينة. 

حين وُضع منسف السويداء الشهي أمامي، في وعاء كبير له حلقتان، صرخت بحماس: «كم يشبه منسف درعا! صح؟»، لأتلقى نظرات ضاحكة وأخرى مستنكرة

«المرأة الحورانية الشاطرة، هي اللي بتعرف تعمل هاد اللبن ببيتها»، كانت تضيف ضاحكة، معتزة بمهاراتها في أعمال المنزل. لكنها لم تكن تستطيع إخفاء حزنها، فتلك التقاليد اختفت مع تشتت سيدات القرية في أصقاع البلاد، كما أن العائلة - بفعل التنقل المستمر - فقدت مستلزمات المنسف، وأهمها كما يقولون الأواني المصنوعة من النحاس، أو الألمنيوم، التي تستخدم لتقديم الطعام. أوانٍ بأحجام مختلفة تبعاً لكبر أو صغر الوليمة، ويستدل على ذلك من عدد الحلقات المثبتة على كل وعاء، وتُستخدم لحمله. «كان لدينا وعاءان كل واحد منهما بحلقتين، ووعاء بثلاث حلقات، هاد للعزايم الأكبر»، شرحت لي الأم مرة، وهي تعرض عليّ صوراً تحتفظ بها في هاتفها الصغير، تُظهر بعض الولائم التي كانت تقام في منزلهم الكبير. لحسن الحظ ربما، لم تستطع الحرب أن تنال من الصور.

***

كنت قد نسيت كل هذه التفاصيل، إلى أن استعدتُها في العام الماضي، عندما دُعيت لتناول المنسف مجدداً في منزل بإحدى ضواحي دمشق، لدى عائلة صديق تعرفت إليه حديثاً، وقد اختار وعائلته الاستقرار هنا، مع تدهور الأحوال الأمنية في قريتهم بريف السويداء.

حين وُضع الطبق الشهي أمامي ضمن وعاء حديدي كبير له حلقتان، صرخت بحماس: «كم يشبه منسف درعا! صح؟»، لأتلقى نظرات ضاحكة وأخرى مستنكرة. 

أخبرتهم بفخر بأنني أعرف أصدقاء من درعا، كانوا يمتلكون ثلاثة أوعية، بحلقتين أو ثلاث حلقات، لكنها للأسف ضاعت في فوضى الحرب.
«صح. العادات عنا وعندهم بتشبه بعضها، ونحن بالنهاية قراب لبعض، لكن أكيد في فروقات»، أجابني رب العائلة، ثم استفاض في شرح ما يميز منسف كل محافظة عن منسف المحافظة الجارة. تفاصيل وجدتها دقيقة وصغيرة للغاية، وتتعلق بنوع المواد المستخدمة، وخصائص مراحل تحضيرها، وأيضاً المقادير المستخدمة في كل مرحلة.

«لماذا تعقّدون الأمور؟» سألتهم مبتسمة، ولم يبدُ الأمر بالنسبة لهم تعقيداً، بقدر ما هو خصوصية يحبونها ويعتزون بها.

***

عند عودتي إلى المنزل، قررت أن اقرأ أكثر عن الموضوع. استعنت بـ «غوغل»، وكتبت في مستطيل البحث: «المنسف بين درعا والسويداء»، لأحصل على نتائج من قبيل «حصة الموت بين درعا والسويداء»، «درعا والسويداء على نار حامية».. إلخ


Share!

لا يتبنى «صوت سوري» أي توجه مسيس للملف السوري ولا تقف وراءه أي جهة سياسية.
نحن نراهن على دعمك لنا في الوصول إلى جميع السوريين والسوريات.

إذا رأيت أن خطابنا يستحق الوصول انشري / انشر هذا المقال من فضلك

لديك تصويب أو ملاحظة؟ تفضل/ي بالتعرف إلى محررة القراء والتواصل معها