× الرئيسية
ملفاتنا
المستشارة
النشرة البريدية
تَواصُل
من نحن
اختر محافظة لتصفح المقالات حلب
الرقة
الحسكة
دير الزور
اللاذقية
طرطوس
إدلب
حماة
حمص
دمشق
القنيطرة
درعا
السويداء
ريف دمشق

دفاترنا العتيقة: لا شيء يدوم إلى الأبد

عقل بارد - على الطاولة 02-02-2021

كنا نحن الطلاب أشبه بالآلات الكاتبة، علينا أن ندون كل ما يُكتب على السبورة، فيما كانت كمية الدفاتر والأوراق والنوتات التي نبتاعها من المكتبات المتناثرة قرب الجامعة تثير الرعب، بكل معنى الكلمة

الصورة: (Omar O tres - فليكر)

«ولم لا تزودنا بالمحتوى العلمي للمادة على شكل كتاب إلكتروني»؟ نسأل جميعاً - باستغراب - أحد مدرّسي الماجستير في الجامعة الأوروبية التي نتابع الدراسة فيها. 

«ما الفائدة من الكتابة من دون أن نفهم؟ أليس الأفضل تركيز انتباهنا على المادة العلمية التي تشرحها، بدلاً من إضاعة الوقت في كتابة ما هو مكتوب أصلاً»؟ نتابع نقاشنا معه، ونحن نلعن ونشتم في سرنا، حظنا العاثر الذي ساق لنا هذا المدرس. هو متمكّن من المحتوى العلمي لكنه متمسك برأيه بطريقة غريبة، ما ذكّر معظمنا بأمثلة مشابهة في بلداننا الأصلية، معظمنا من دول عربية، إضافة إلى دولة باكستان.

تعيدني القصة إلى أيام دراستي الجامعية في سوريا، قبل أكثر من 15 عاماً، حين كانت العلاقة مع الدفاتر أقوى بكثير، بحكم أن انتشار طرائق التعليم الحديثة لم يكن قد تسارع بعد، وكان مشهداً مألوفاً أن يملأ المدرّس السبورة مرات عديدة، طوال ساعتين هما عمر المحاضرة الواحدة. 

كنا نحن الطلاب أشبه بالآلات الكاتبة، علينا أن ندون كل ما يُكتب على السبورة، فيما كانت كمية الدفاتر والأوراق والنوتات التي نبتاعها من المكتبات المتناثرة قرب الجامعة تثير الرعب، بكل معنى الكلمة.

كنا قبيل الامتحانات بأسبوع أو اثنين، نجتمع مرات عدة، «كل شلة لحالها»، يزود كلّ منا الآخرين بما لديه، ونستكمل ما ينقصنا من المكتبات، وقد يحالفنا الحظ فترق لحالنا قلوب الطالبات والطلاب الأكثر دواماً، ودراسة، وكتابة خلف المدرسين، فيزودوننا بدفاترهم التي تنتشر بكثرة وتتناقلها الأيدي، وآلات التصوير.

تُضاف إلى ذلك طبعا «النوتات» الجاهزة، التي قد يصادف أن مدرس / ـة المادة وراء إعدادها، وطرحها في إحدى المكتبات للبيع. حدث ذلك معي أثناء دراستي الجامعية مرتين، توجب علينا أن نشتري «النوتة» الخاصة بإحدى المواد، من مكتبة يملكها أحد أقارب مدرس المادة. لا بأس، كان همنا النجاح فقط.

كنت أحتفظ بكل أوراق المسودة منذ بداية الامتحان إلى نهايته، كي أحرقها في سلوك طقسي، لم يكن خاصاً على الإطلاق

نواصل نقاشاتنا مع مدرسنا الأوروبي، «عليكم الكتابة، عندما كنت في مثل سنكم، كنت أتعب كثيراً، ينبغي على طالب الماجستير أن يكد ويجتهد كثيراً» يجيبنا بكل برود، فيما نكاد نشتعل غضباً، خاصة أنه يتجاوز الستين من عمره، ما يعني أن وقتاً طويلاً قد انقضى منذ كان طالباً، والطريقة التي يتحدث عنها تعود إلى عقود خلت. 

تستمر ذاكرتي في الذهاب بعيداً، لتتوقف عند ظاهرة قديمة أظنها حيّة حتى اليوم، وأعني رمي الطلاب الدفاتر والكتب في الشوارع، عقب الانتهاء من الامتحانات، وخاصة امتحان شهادة «البكالوريا» الأكثر رعباً في حياة الطلاب. 

أتذكر كيف كنت أحتفظ بكل أوراق المسودة منذ بداية الامتحان إلى نهايته، كي أحرقها في سلوك طقسي، لم يكن خاصاً على الإطلاق. 

قد نحتاج هنا مختصّاً في علم النفس التربوي لتفسير مثل تلك الأفعال، التي أفسرها شخصياً بفشل ما، في النظام التعليمي، أقله في زرع حب التعلم عند الطالب. 

ما أعجز عن تفسيره، شأني شأن بقية الزملاء هنا، في أوروبا، هو تعنت هذا المدرس، دوناً عن بقية المدرسين الذين زودونا بكل ما احتجناه، بلا حاجة إلى النسخ التلقيني.

الغريب، أنه يدرس واحداً من أكثر الاختصاصات العلمية التصاقاً بالتكنولوجيا الحديثة، فما حاجتنا إلى الدفاتر والكتب والمحاضرات، إذا كان كل المحتوى العلمي موجوداً على شبكة الإنترنت؟ ناهيك بالكتاب الإلكتروني الذي يشرح منه. 

يتوقف دفتر الذاكرة من جديد عند صفحة عتيقة تعود إلى أيام الطفولة والدراسة الابتدائية. أتذكر شكل الدفاتر المدرسية التي كانت إحدى وسائل تمييز الفئات الغنية، من الفئات الفقيرة. كانت الدفاتر المنمقة ذات الأوراق الجيدة، المتمتعة بنوع فاخر من التجليد، حكراً على أبناء الميسورين.

ما زلت أذكر رائحة الورق المقوى ذي اللون الخمري، مع التجليد اللاصق أو النايلون الممتاز الذي لا يتمزق، مقابل ذلك النوع الرديء، المعرض للتمزق من لمسة خفيفة. فيما كانت الدفاتر الموحدة التي حملت صورة رئيس الجمهورية حينها، ترافق حقائب أغلب أبناء الطبقة التي كانت تسمى «وسطى»، فضلاً عن الفقراء. 

نعم، لم نكن في طفولتنا نختار ألواناً زاهية، أو صوراً لأبطال أفلام الكرتون كما هو الحال الآن على خلفيات دفاترنا. كانت الخيارات شبه موحدة. 

لم يطل الأمر كثيراً بمدرسنا الأوروبي الوحيد الذي أجبرنا على الكتابة، فسرعان ما انتشرت جائحة كورونا، وفرضت التعليم عن بُعد على معظم الجامعات في العالم، ما اضطره أخيراً إلى تزويدنا بالنسخة الإلكترونية من المحاضرات. 

حسناً، ها أنت ترضخ في نهاية المطاف يا أستاذ لسببٍ ما، فلا شيء يدوم إلى الأبد.


Share!

لا يتبنى «صوت سوري» أي توجه مسيس للملف السوري ولا تقف وراءه أي جهة سياسية.
نحن نراهن على دعمك لنا في الوصول إلى جميع السوريين والسوريات.

إذا رأيت أن خطابنا يستحق الوصول انشري / انشر هذا المقال من فضلك

لديك تصويب أو ملاحظة؟ تفضل/ي بالتعرف إلى محررة القراء والتواصل معها