× الرئيسية
ملفاتنا
المستشارة
النشرة البريدية
تَواصُل
من نحن
اختر محافظة لتصفح المقالات حلب
الرقة
الحسكة
دير الزور
اللاذقية
طرطوس
إدلب
حماة
حمص
دمشق
القنيطرة
درعا
السويداء
ريف دمشق

دفاترنا.. أعمارنا التي سرقها اللصوص

حكاياتنا - ملح 03-02-2021

بعد سنوات من رحلات النزوح والهرب المتواصل من الموت، وبعد أن هدأت وتيرة الحرب في مدينتي، زرت منزلنا. لم أجده مهدماً كما كنت أظن، كان يقف بين مجموعة منازل مدمرة، وكأن قوّةً ما حرسته، لكن تلك القوة لم تقدر على منع اللصوص من سرقته

الصورة: (Yazan Homsy - فليكر)

في سقيفة منزلنا، وداخل كرتونة صغيرة مكتوب عليها «مقبلات سمروت»، كنت أحتفظ بذكرياتي: جميع دفاتري، منذ الصف الأول الإبتدائي وحتى الجامعة، وجميع جلاءاتي المدرسية، وشهادات التقدير والثناء، وحتى بطاقات مسرحيات الطلائع التي كان يفرض علينا شراؤها في المدرسة من دون أن نحضر أياً منها، كنت أحتفظ بها هناك في أقصى يسار السقيفة. 

تلك الكرتونة تمثل مراحل حياتي التي عشتها حتى اندلاع الحرب.

بعد سنوات من رحلات النزوح والهرب المتواصل من الموت، وبعد أن هدأت وتيرة الحرب في مدينتي، زرت منزلنا. لم أجده مهدماً كما كنت أظن، كان يقف بين مجموعة من المنازل المدمرة، وكأن قوّةً ما حرسته، لكن تلك القوة لم تقدر على منع اللصوص من سرقته، سرقوا كل شيء، بدءاً من باب المنزل وصولاً إلى «كرتونة ذكرياتي».

أحياناً أتخيل شكل السارق، وملامحه بعد أن حمل تلك الكرتونة، ووصل بها إلى منزله أو محله، وجلس ينبش فيها ويكتشف ما بداخلها، أكاد أجزم أنه ضحك على نفسه وعلى خيبته.

أتخيله يقلب صفحات دفاتري، وأوّلها دفتر بجلد أسود عليه لصاقة ملونة الأطراف، وفي منتصفها كُتب اسمي بخط جميل، هو خط أمي التي علمتني أن الاعتناء بالمظهر هو أمر مهم تماماً كأهمية الاعتناء بدواخلنا. أتذكرها تحمل قلم «البيك» الأزرق وتنحني فوق طاولتنا ذات اللون البني، وتكتب اسمي، ثم تنظر إليّ بعد أن تنتهي، وتبتسم: «هاد الدفتر الليلي، بتكتب عليه وظايفك، وهاد الأحمر نهاري، بتكتب عليه ورا الأستاذ. ما تخربط».

على صفحات هذا الدفتر تعلمت رسم الحروف والأرقام لأول مرة. على صفحاته شكّلت كلمات وجملاً، وأجريت أولى عملياتي الحسابية. على صفحات ذلك الدفتر توجد بقعة زيت من سندويشة الزعتر التي كنت آكلها وأنا أكتب وظيفتي، وتوجد بقعة حبر أيضاً من تجربة الكتابة بقلم الحبر الذي سرقته من جيب أبي، وأوّل «أحسنت» كتبتها لي المعلمة في حياتي، وأول «لا بأس» أيضاً. 

على صفحات ذلك الدفتر اكتشفت لأول مرة الفرق بين الجيد والممتاز، اختبرت النجاح والفشل.

حاولت أمي مسح دموعي، جهّزت لي دفتراً جديداً، وأهدتني قلماً يكتب بأربعة ألوان، ومجموعة أدوات هندسية وفرجاراً، ثم أخبرتني أن الحياة ليست عادلة دائماً

في الصف الرابع أضعت دفتري الليلي، وضاعت معه الوظيفة. أتذكر المعلم وهو يعاقب الطلاب الذين لم يحضروا وظائفهم، وأنا من بينهم، اصطففنا في طابور أمام السبورة، بينما جلس على كرسيه الخشبي وراء طاولته الحجرية في أقصى يسار الصف، ورحنا نتوجه إليه تباعاً فاتحين أكفنا، ضربني حينها بعصاه، ثلاثاً على كفي اليمنى، وثلاثاً على اليسرى، وصرخ في وجهي: «حاج تكذب ما ضيعت دفترك، لو قلت لي ما كتبت الوظيفة كنت أكلت عصايتين بس».

لم أبك حينها، بكيت بعد عودتي إلى المنزل كثيراً. 

حاولت أمي أن تمسح دموعي، جهّزت لي دفتراً جديداً، وأهدتني قلماً يكتب بأربعة ألوان، ومجموعة أدوات هندسية وفرجاراً، ثم أخبرتني أن الحياة ليست دائماً عادلة، وعليّ أن أكون أكثر صلابة، وأنني سأظلم كثيراً خلال هذه الحياة.

أتخيل السارق يحمل بين يديه دفتر أشعاري، ذلك الدفتر الذي حاولت أن أكتب عليه أول قصيدة لي لأرفقها برسالة كنت أكتبها لفتاة كنت أحبها، من دون أن أعرف اسمها حتى. 

حسناً، سيجد بين صفحات الدفتر أيضاً تلك الرسالة التي لم أجرؤ على إرسالها. أعتقد أن السارق سيضحك بعد أن يعثر أيضاً على وردة مجففة بين الصفحات، كنت أنوي إرسالها مع الرسالة.

إن كان السارق فضولياً، وبحث وراء جلد الدفتر الأزرق، سيعثر على صورة مقصوصة من مجلة لا أتذكر اسمها، صورة لعارضة أزياء ذات شعر مجعد قصير، يتدلى من أذنها اليسرى حلق طويل لامع، تلك كانت أولى محاولاتي لدخول سن المراهقة.

في صفحات الدفتر بقعة زيت من سندويشة زعتر كنت آكلها وأنا أكتب وظيفتي، وبقعة حبر من تجربة الكتابة بقلم حبر سرقته من جيب أبي، وأوّل «أحسنت» كتبتها لي المعلمة في حياتي، وأول «لا بأس» أيضاً

في تلك الكرتونة، سيجد السارق دفتراً بجلد نيلي، يغطيه جلد آخر شفاف. كان ذلك أحد دفاتر الصف السابع، أذكر أنني اشتريت ورقاً خاصاً من المكتبة، ومعه جلد شفاف، وجلست في المنزل أجلّد دفتري. على ذلك الدفتر كتبت لأول مرة اسمي على غلاف، حينها قررت أن أعتمد على نفسي، وأذكر أنني حاولت تقليد خط أمي.

في جلاءاتي المدرسية، سيعثر السارق على «تفوق» حصلت عليه في الصف الخامس، وآخر في الصف السادس. كما يمكنه أن يلاحظ الفارق بين الملاحظة التي تركها الأستاذ عني في الصف الثالث «كثير الحركة والكلام»، وتلك التي تركها أستاذ الصف الرابع «انطوائي وقليل الكلام»، حسناً يا أستاذ، لقد حولتني عصاك إلى ذلك الانطوائي.

سيعثر السارق على قصاصات ورقية من الصف الثالث الثانوي (البكالوريا)، هي «روشيتات» جهزتها لأستعين بها في الامتحان النهائي، مثل جميع أصدقائي، لكنني لم أجرؤ على أخذها معي إلى الامتحان. 

سيعثر أيضاً على مصنف بلاستيكي وضعت داخله مخططاتي لما بعد ذلك الامتحان، ولم أنفذ أياً منها: لم ألتحق بناد رياضي، ولم أتعلم السباحة، ولم أجرؤ على مصارحة ابنة الجيران بأنني معجب بها، ولم أدخل الكلية التي كنت أحلم بها.

لا أعرف مصير كرتونتي تلك. قد يكون السارق أحرقها، أو باعها بثمن بخس.

الآن وأنا أكتب هذه الكلمات أحاول أن أتخيل عدد الأشخاص الذين فقدوا كراتينهم، أتخيل دفاترهم، وكتبهم، ألبومات صورهم، تاريخهم الذي التهمته الحرب، دفاترهم التي سرقها لصوص لا يعرفون قيمتها، وباعوها بأثمان بخسة، لتُلف بها سندوتشات الفلافل، أو عرانيس الذرة، أو ليحرقوها، أو يرموها في الحاويات، فتطير صفحاتها وتتناثر بين الشوارع والأزقة والركام، مثلنا تماماً.


Share!

لا يتبنى «صوت سوري» أي توجه مسيس للملف السوري ولا تقف وراءه أي جهة سياسية.
نحن نراهن على دعمك لنا في الوصول إلى جميع السوريين والسوريات.

إذا رأيت أن خطابنا يستحق الوصول انشري / انشر هذا المقال من فضلك

لديك تصويب أو ملاحظة؟ تفضل/ي بالتعرف إلى محررة القراء والتواصل معها