جورجي بحري
الاستماع إلى المقال
«رئيس مسيحي حكم سوريا لمدة 24 ساعة». تعود الواقعة المُفترضة إلى العام 1951، ويبدو أن أول ذكرٍ لها جاء في مذكرات السياسي سعيد إسحق، الذي كان في تلك الفترة نائباً لرئيس البرلمان، ثم «صار رئيساً للبلاد بالوكالة» وفق الرواية.
ينقلُ الصحافي السوري شمس الدين العجلاني عن مذكرات إسحق ما نصّه: «لم يكن رئيس الحكومة على وفاق مع ضباط الجيش فاجتمعوا برئاسة رئيس الأركان العقيد أديب الشيشكلي ورفضوا الحكومة التي شكلها معروف الدواليبي، وبعد منتصف الليل تم اعتقال رئيس المجلس النيابي ناظم القدسي، والوزراء، ورشدي كيخيا زعيم حزب الشعب، وعدد من النواب، وبعد يومين قدم رئيس الجمهورية هاشم الأتاسي استقالته إلى سعيد إسحق النائب الأول لرئيس المجلس النيابي بتاريخ 2 كانون الأول من عام 1951، وهكذا وبموجب الدستور وبما أنني أصبحت رئيساً للمجلس النيابي بعد أن كنت نائباً أول للرئيس، وبما أن الدستور ينص على تولي رئيس المجلس النيابي رئاسة الجمهورية بالوكالة، فقد أصبحت مكلفاً بتسيير أمور رئاسة الجمهورية إلى حين انتخاب رئيس جديد، ولكن بعد انتهاء الدوام الرسمي من يوم 19 كانون الأول سنة 1951 أصدر الجيش البلاغ رقم 1 بتعطيل الدستور، وحل المجلس النيابي، وتعيين الزعيم فوزي سلو رئيساً للحكومة».
وبحسب المذكرات، فقد تولى إسحق رئاسة الجمهورية السورية (بالوكالة) اعتباراً من 3 كانون الأول 1951 إلى صدور البلاغ رقم 1 بتاريخ 19 كانون الأول.
«تصويب» العجلاني
يصوّب شمس الدين العجلاني تلك الرواية، لكنه لا ينفيها، ويخلُص إلى أن سعيد إسحق «كان رئيساً لسوريا بالنيابة ولكن لمده لا تزيد عن 24 ساعة».
يقول شارحاً: «شكل الدواليبي وزارته يوم 28 تشرين الثاني، ويوم 29 تشرين الثاني استلم الجيش زمام الأمور واعتقل رئيس الحكومة، ورئيس مجلس النواب، ويوم 1 كانون الأول قدم الدواليبي استقالته من سجن المزة، وتبعه رئيس الجمهورية يوم 2 كانون الأول، وفي اليوم نفسه صدرت المراسيم التشريعية بحل المجلس النيابي، واستلام الشيشكلي مهام رئاسة الدولة بشرط نشر المراسيم ومن ثم تنفذ، وبما أن هذه المراسيم نشرت بتاريخ 3 كانون الثاني في الجريدة الرسمية فإن إسحق كان رئيساً بالوكالة في الفترة الزمنية بين صدور المراسيم ونشرها (2 و3 كانون الأول)»
هل حصل ذلك فعلاً؟
أول الأمر، تجب الإشارة إلى أن الوقائع كما أوردتها مذكرات سعيد إسحق ليست دقيقة، بينما يتسم تصويب العجلاني بالدقة لجهة ربط الوقائع بأيام حدوثها، فقرار تسلم الجيش مقاليد السلطة يعود إلى تاريخ 2 كانون الأول، لا إلى 19 كانون الأول كما تقول مذكرات إسحق.
صحيح أن القدسي سلّم استقالته إلى سعيد إسحق الذي كان نائباً لرئيس البرلمان، لكن الأمر هنا يُحسب على قاعدة أن إسحق ناب عن رئيس البرلمان إداريّاً، ولا يعني هذا في حال من الأحوال أنه صار رئيساً للبرلمان طالما أنّ الرئيس الشرعي لم يستقل، أو يتوفى
لكن هذا لا يعني أن رأي العجلاني صحيح بخصوص تولي إسحق رئاسة الجمهورية لمدة 24 ساعة. منشأ الخطأ هنا أن العجلاني يرى أن مرسوم تولي الشيشكلي مهام رئاسة الدولة لم يدخل حيز التنفيذ إلا بعد نشره في الجريدة الرسمية (صدر المرسوم يوم 2 كانون الأول، ونُشر يوم 3 كانون الأول).
فضلاً عن ذلك، هناك الكثير من التفاصيل التي تنقض رواية إسحق، ورأي العجلاني في الوقت نفسه، وهي:
1- استقالة الدواليبي يوم 1 كانون الأول من السجن لا أثر لها من حيث تغيير السلطة التأسيسية، فهو رئيس حكومة وليس رئيس جمهورية أو برلمان.
2- ناظم القدسي لم يقدم استقالته، ما يعني أنه ظلّ رئيساً للبرلمان، لكنه كان رئيساً معتقلاً، وبالتالي فقد كان من حيث الشرعية رئيساً للبرلمان عند تقديم رئيس الجمهورية ناظم الأتاسي استقالته إلى البرلمان.
3- صحيح أن القدسي سلّم استقالته إلى سعيد إسحق الذي كان نائباً لرئيس البرلمان، لكن الأمر هنا يُحسب على قاعدة أن إسحق ناب عن رئيس البرلمان إداريّاً، كما قد يحصل إن كان رئيس البرلمان مسافراً، أو مريضاً، أو في إجازة، ولا يعني هذا في حال من الأحوال أنه صار رئيساً للبرلمان طالما أنّ الرئيس الشرعي لم يستقل، أو يتوفى.
4- حين قدّم الرئيس الأتاسي استقالته في 2 كانون الأول لم يكن العسكر قد أصدروا بعد الأمر العسكري رقم 1 الذي تسلموا السلطة بموجبه، ما يعني أن القدسي (رئيس البرلمان المعتقل) هو من أصبح رئيساً للجمهورية وفق المادة 88 من الدستور (وليست المادة 87 كما ورد عند شمس الدين العجلاني).
5- صدور الأمر العسكري رقم 1 الذي أعطى للجيش السلطتين التشريعية والتنفيذية، وحلّ البرلمان بعدها بساعات بموجب المرسوم رقم 1 في 2 كانون الأول يعني أن انقلاباً قد حصل، وأن الجيش قد تسلم كل السلطات مباشرة مع صدور المرسوم، ولا يتوقف الأمر على نشر المرسوم الذي لا يعدو كونه في حالات كهذه إجراء إعلانيّاً.
6- الأمر العسكري رقم 1 يعني فعلياً ودستورياً تعليقاً للدستور القديم (حتى وإن كان يدعي أنه يقوم بحماية الدستور من تآمر حزب الشعب) وبالتالي ألغى شرط تطبيق القوانين من لحظة نشرها لا من لحظة إصدارها، فنصُّ الاستحواذ على السلطة كان صريحاً في بدء تنفيذه من يوم 2 كانون الأول، وامتلاك السلطتين التنفيذية، والتشريعية من تلك اللحظة.
إضافة إلى كل ما تقدم، تجدر الإشارة إلى أن الدستور كان واضحاً في نص المادة 3 منه من حيث أن «دين رئيس الجمهورية هو الإسلام»، والواقع أن هذا الشرط ظلّ حاضراً في كل الدساتير السورية منذ ما قبل الاستقلال، بدءاً بدستور العام 1920 الذي نص على أن «حكومة المملكة السورية العربية حكومة ملكية مدنية نيابية عاصمتها دمشق الشام ودين الملك الإسلام».
ويبدو أن هذه الجزئية المفصلية هي أبرز أسباب الانتشار الكبير الذي تحظى به رواية الراحل سعيد إسحق، إذ تمثّل تلك الرواية فرصة للقول إن البلاد شهدت سابقة كُسر فيها شرط تحديد دين رئيس الدولة. لكن الوقائع تقول إن تلك الرواية لا تعدو كونها «حدوتة» لطيفة، لم تحدث!
لديك تصويب أو ملاحظة؟ تفضل/ي بالتعرف إلى محررة القراء والتواصل معها
This work
by
SOT SY
is licensed under
CC BY-ND 4.0