مِثال آل فكري
طريق طويل قطعه خالد من دير الزور إلى دمشق قبل شهور، تمهيداً لسفره تهريباً نحو لبنان. حسم الرجل الأربعيني أمره وقرر الإقدام على هذه الخطوة لأنه متهم بـ«قضايا إرهاب».
كان ذلك قبل صدور المرسوم رقم 7 الذي أعلن عفواً عن «قضايا الإرهاب ما لم تتسبب في موت إنسان»، وبيان وزارة العدل الذي استند إلى المرسوم ليعلن «إلغاء البلاغات، وإذاعات البحث، والتوقيفات، والمراجعات المستندة إلى الجرائم المنصوص عليها في قانون مكافحة الإرهاب».
لكن المرسوم، والبيان لا يعنيان بالضرورة أنّ حركة التهريب بين سوريا ولبنان ستتوقف، إذ يسلك هذا المسار كثرٌ لأسباب عديدة، علاوة على التوجس الذي يسيطر على كثيرين حتى بعد صدور البيان المذكور، إذ لم تتوافر بعد معلومات قاطعة عن مدى التزام تنفيذه.
يروي خالد لـ«صوت سوري» فصول الرحلة التي قطعها، ليكون واحداً من عشرات يعبرون الحدود يومياً بالطريقة ذاتها، وفق أحد المهربين.
يقول خالد: «علمت بأنني مطلوب لمحكمة الإرهاب في دمشق، فبعت منزلي وكل ما أملك وقررت الخروج». بسهولة وجد الرجل الطريقة، فقد اتفق مع سائق «بولمان» على أن يقلّه وعائلته إلى دمشق بشرط أن تبقى هويته في جيبه تجنباً لـ«الفيش» الأمني مقابل 500 ألف ليرة يدفعها للسائق.
في دمشق، اتصل خالد بأحد المهربين في منطقة وادي خالد اللبنانية لنقله وأسرته عبر منطقة القصير في حمص. وفي اليوم المحدد انطلق إلى نقطة اللقاء التي حددها له سائق سوري زوده المهرب برقمه. تقع النقطة على أطراف دمشق، ويتجمع عندها «زبائن المهرب».
يواصل خالد: «انتظر سائق السرفيس اكتمال عدد من اتفق معهم المهربون لنقلهم إلى القصير، ثم انطلقنا ويدي على قلبي».
مرّ «السرفيس» الذي يقل 16 شخصاً على حواجز عدة للجيش السوري، من دون أن يخضعوا للتفييش، وصولاً إلى حاجز حسياء في حمص، «وهنا أخذ السائق هويات الكل وفرزها بين من هو مطلوب ومن هو غير مطلوب وذهب للتفييش».
كان الرعب سيد الموقف، رغم أن الانتظار لم يدم أكثر من ربع ساعة، وانتهى بإعادة الهويات إلى الجميع مقابل مبلغ مجزٍ للعناصر.
على غرار خالد، يسافر كثيرون، خاصة من مناطق سيطرة دمشق، فمنهم من هم مطلوبون للخدمة الاحتياطية أو الإلزامية، أو لجهات أمنية، إضافةً إلى سفر شبان كثرٍ من مناطق التسويات قبل انتهاء مهلة التأجيل العسكري، خصوصاً درعا والقنيطرة.
إلزامي.. واحتياط
محمد شاب لم يتجاوز الخامسة والعشرين من العمر قرر سلوك الطريق ذاته، ففترة تأجيل خدمته الإلزامية تنتهي مع نهاية نيسان/أبريل 2022، ثم عليه تسليم نفسه لشعبة تجنيده. يقول: «عملت تسوية لمدة سنتين تتضمن تأجيلي عن الخدمة الإلزامية، وبعدها يتوجب عليّ الالتحاق». ولا مجال هنا إلا للتهريب.
أما صفوان (38 عاماً)، فبعد أربع سنوات من بقائه متخفياً، سافر تهريباً إلى لبنان ومنها إلى تركيا.
يقول: «أنا متزوج ولدي طفلان، ومطلوب للاحتياط... أنا أرفض القتال في صفوف أي طرف».
يعمل صفوان صحافياً مع مواقع خارجية ودخله جيد، لكنه لا يستطيع إخراج عائلته إلى لبنان بالطرق النظامية بسبب تشديد لبنان إجراءات عبور الحدود، ويرفض الرجل فكرة خروج زوجته وطفليه عبر طرق التهريب، لذلك قرر الخروج وحده وترك زوجته، لكن بعدما باع منزله وانتقلت زوجته للسكن عند أهلها ومعها الطفلان.
ما بعد القصير
في القصير يتم تجميع «المسافرين» في بيت على العظم (بلا إكساء) كما يقول صفوان، قبل أن يُفرزوا بحسب المهرب الذي اتفقت معه كل مجموعة، ثم يُنقلوا بعدها بواسطة سيارات «بيك أب» مكشوفة إلى بيت آخر بلا سقف. «بقينا في ذلك البيت نحو ست ساعات، كان الطقس بارداً والمطر غزيراً، وكان معنا أطفال ونساء. فاق عددنا في ذلك المنزل 40 شخصاً».
خلال تلك الساعات، كان المهربون يجمعون الناس وفقاً لزمن وصولهم من دمشق أو حلب وغيرهما، تمهيداً لنقلهم إلى منطقة وادي خالد اللبنانية سيراً على الأقدام وفي الليل.
يقول خالد: «حمّلونا بسيارة متل الغنم، كنا نحو 40 في سيارة واحدة قطعت بنا مسافة عشر دقائق، ثم بدأ الصراخ: انزلوا بسرعة وامشوا بهذا الاتجاه». ويضيف: «كانت التاسعة ليلاً عندما بدأنا المسير، ثم وصلنا إلى وادي خالد في الثانية والنصف بعد منتصف الليل».
وعلى امتداد تلك تلك المسافة عانى خالد وزوجته وأطفاله من المطر والبرد القارس، وكان ممنوعاً على أي شخص التفوه بأي حرف، ما يعرض الناس لخطر إلقاء القبض عليهم من مخابرات الجيش اللبناني.
كان الطريق جبلياً وموحلاً ولذلك ساعده بعض رفاق الرحلة في حمل أطفاله بالتناوب، ثم لما وصلوا وادي خالد جمع المهربون الناس في منزل آخر، وأخبروهم بأن عليهم الانتظار حتى ساعة محددة لإكمال الرحلة مشياً في الجبال، تجنباً للمرور بالقرب من حاجز للجيش اللبناني.
وبعدما قطعوا مسافة أخرى بين الجبال كانت هناك سيارات تنتظرهم، تمهيداً لنقلهم إلى بيروت (منطقة الكولا) حيث نهاية رحلة التهريب.
وبينما عانى خالد ومن معه، مشى صفوان في رحلته مدة ساعتين فقط، عبر طريق آخر يسمى «معبر النهر».
كيف يعمل المهربون؟
توجد طرق مختلفة للحصول على رقم مهرب يعمل بين سوريا ولبنان، منها إعلانات تنتشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي، أو من خلال الوصول إلى سوريين في لبنان يعملون في التهريب. ويرتبط بكل مهرب في لبنان أشخاص يعملون معه داخل سوريا. ويتخذ هؤلاء كنى وهمية من قبيل: أبو حسن، وأبو عدي، وغير ذلك.
أبو يونس مهرب سوري يقيم في وادي خالد، تواصلنا معه عبر تطبيق «واتساب»، وقال «لدينا سيارات مع سائقين تأخذ الناس من دمشق إلى المعبر. الطريق دهب... خط عسكري من الشام للمعبر».
يشرح هذا المهرب أن السائق في دمشق هو من يتولى التفاهم مع حواجز الجيش السوري، فهناك كلمات سر تُقال عند بعض الحواجز كي يمر بلا «تفييش» المطلوبين.
وفق أبو يونس هناك أكثر من أربع رحلات يومياً. يقول: «نادراً ما تحدث مشكلة مع الحواجز، وفي حال حدثت تُحل بالدفع للعناصر... يومياً هناك بين 60 و70 شخصاً يخرجون». ليست حمص (القصير) معبراً وحيداً للتهريب إلى لبنان، فهناك خط آخر للتهريب عبر طريق دمشق بيروت، ولكن هذا الطريق يتطلب ممن يقطعه المشي أكثر من ست ساعات في الجبال.
عند وصوله إلى بيروت دفع خالد 200 دولار كلفة تهريب كل فرد من أسرته، أما صفوان فقد دفع 300 دولار. وعادة ما تتراوح كلفة التهريب بين هذين الرقمين، فيما يؤكد المهرب أبو يونس أن «الفرقة الرابعة هي من تسيطر على معابر التهريب مع لبنان».
لديك تصويب أو ملاحظة؟ تفضل/ي بالتعرف إلى محررة القراء والتواصل معها
This work by SOT SY is licensed under CC BY-ND 4.0