الصورة: (المركز الصحفي السوري - فايسبوك)
يتجاهل محمد الهوشان، من سكان بلدة أبو حمام شرقي دير الزور، حجم المخاطر التي ستلحق به نتيجة عمله على إحدى حرّاقات النفط، بل يظهر استعداداً تاماً لإشعال النيران تحت خزانه الذي يتسع لأكثر من عشرين ألف لتر من النفط في بادية البلدة التي صارت ميدان عمل لأصحاب الحرّاقات.
يمتهن محمد (33 عاماً) العمل على تلك الحرّاقة البدائية يومياً لتكرير النفط واستخراج مشتقاته، في مهنة رائجة في أرياف دير الزور التي تخضع لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، بعدما باتت مصدر رزق للكثيرين عبر بيع الناتج في السوق السوداء.
«يبدأ الحرق بوضع النفط الخام في خزان معدني يتسع لأكثر من خمسين ألف لتر أحياناً، لتخرج منه أنابيب تمرّ بمجرى مائي لتكثيف المشتقات وتبريدها بعد تحويلها إلى غازات بفعل الحرارة العالية، ثم تصب في وعاء معدني وتفرغ المشتقات في أماكن مخصصة لها»، يشرح الرجل.
وكانت «قسد» قد استطاعت إحكام سيطرتها على معظم حقول النفط المتوزعة على مناطق شمالي وشرقي سوريا وخاصة في أرياف دير الزور، لتصدر قراراً بالتعاقد مع مستثمرين تابعين لها والسماح لهم باستخراج مشتقات النفط الخام وبيعه ضمن أسواقهم.
لاحقاً تراجع عدد الحرّاقات البدائية بعد إصدار قرار بمنع السكان من تكرير النفط، العمل الذي كان منتشراً عشوائياً خلال سيطرة تنظيم «داعش» المتطرف على المنطقة، كما يخبرنا أصحاب حرّاقات. وهؤلاء كما يبدو لا يأبهون لما تخلفه مهنتهم من «أضرار عاجلة أو موت آجل»، مع أن كثراً منهم تعرضوا لحروق نتيجة اشتعال النيران خلال «التكرير» بسبب تسرب الغازات من الحرّاقة.
يروي محمد أن هناك حوادث كثيرة جرت خلال العمل أدت إلى الوفاة، منها حالات اختناق بسبب الغازات الصادرة عن النيران المشتعلة تحت الحرّاقات، وكانت تبدأ بالاختناق وبلع اللسان ثم الوفاة. كما يصاب غالبية العاملين بأمراض جلدية خاصةً بعد أول عملية تكرير، ولا يمكن التعافي منها إلا بعد شهور من العلاج لدى مختصين.
تبدأ أضرار الحرّاقات البدائية من العاملين فيها ثم السكان وليس أخيراً البيئة المحيطة
يُذكر أن إنتاج سوريا من النفط بلغ في العام 2010 ما يزيد على 385 ألف برميل يومياً، وكان يتوزع على ثلاث مناطق: الحسكة التي كانت تنتج أكثر من 220 ألف برميل من النفط الثقيل، وأرياف دير الزور بنحو 140 ألف برميل من النفط الخفيف، والباقي في حقول صغيرة في ريفي حمص وحماة بـ15 ألف برميل، بحسب التقرير الإحصائي السنوي للطاقة العالمية التي تصدره شركة «بي بي» المعنية بشؤون الطاقة.
أطفال قرب النار
منذ بدء هذه التجارة المحلية ازدادت حوادث اشتعال الآبار نتيجة تصرفات العاملين من إطلاق رصاص أو إلقاء أعقاب السجائر على الأرض والإهمال، إضافة إلى زيادة حوادث السير المرتبطة باحتراق شاحنات نقل النفط.
قابلنا في أحد مواقع التكرير البدائية الفتى إبراهيم حمدان البالغ 13 عاماً من بلدة هجين في ريف دير الزور الشرقي وهو يعمل في جمع الفحم من بقايا تكرير النفط، إضافة إلى إعداد الشاي والقهوة لعاملي الحرّاقات من كبار السن. يقول حمدان الجمعة، وهو والد الطفل، إنه يعتمد على عمل ابنه هنا لمساعدته أمام صعوبات الحياة ولا سيما مع غلاء الأسعار، ما اضطر إبراهيم إلى ترك المدرسة.
إبراهيم واحد من أطفال كثرٍ يمارسون هذا العمل الخطير مقابل نحو دولار أميركي واحد فقط يومياً، مع أن العمل يبدأ منذ الفجر حتى المساء. وهم يعملون أيضاً على إعداد وجبات طعام وتجميع القطع الناتجة من الاحتراق مثل النايلون وعلب الكلور لتخزينها بغية استخدامها في التدفئة شتاء.
يرد الأب على سؤالنا حول الخوف على ابنه بالقول: «وحتى إذا صار فيها ضرر شو بدنا نساوي الله يدبرها، نأمن لقمة الخبز بالوضع الحالي أهم من كل شي ممكن يصير معنا».
كوارث صحية
لهذه الحرّاقات آثار أخرى تطاول سكان المناطق المحيطة أيضاً، ولا تقتصر على العاملين فقط. يقول معتز الحسن وهو طبيب في ريف دير الزور الشرقي إن انتشار هذه الحرّاقات «كارثة صحية تهدد الجيل الحالي كله وكذلك الأجيال اللاحقة». ويعدد الآثار الصحية التي «لا يمكن حصرها» مثل الأمراض الجلدية والالتهابات الرئوية وحالات الاختناق والعقم لدى الرجال والتشوهات نتيجة الحروق الخطيرة.
يضيف الحسن: «الأخطر أن تعرض النساء الحوامل للغازات الصادرة عن الحرّاقات البدائية قد يتسبب في ولادة أطفال مشوهين، أو حتى وفاتهم بسبب تشوهات داخل بيت الرحم نتيجة السموم التي تنبعث من عمليات الحرق، فضلاً عن أن هذه الغازات هي مواد مسرطنة، وقد بدأت تظهر إصابات بسرطانات جلدية وتنفسية بنسب غير معهودة في مناطق هذه الحرّاقات، إضافة إلى إصابات بسرطانات اللوكيميا (ابيضاض الدم) والجليوبلاستوما (الدبق العصبي)».
يمارس أطفال كثرٌ هذا العمل الخطير في مواقع التكرير البدائية مقابل نحو دولار واحد فقط يومياً
في ضوء هذه المخاطر، يقول حسين الغازي، وهو موظف في لجنة محروقات دير الزور (سادكوب)، إن «مجلس دير الزور المدني اتخذ قرارات بضبط هذه الظاهرة عن طريق إغلاق الحرّاقات وتحديداً القريبة من التجمعات السكنية والقرى ومجاري المياه الرئيسية». ويضيف: «ثمة تراجع كبير في العدد بعد سيطرة قسد على عكس سيطرة داعش».
مع ذلك، تعاني المناطق الخاضعة لسيطرة «قسد» و«الإدارة الذاتية» من وضع صحي هش نتيجة لتردي الخدمات الطبية وإغلاق عدد من المراكز الصحية والمستشفيات، أو تدمير بعضها كلياً أو جزئياً بفعل العمليات الحربية.
تلويث البيئة
من جهة أخرى، يقول المهندس الزراعي فارس سلامة إن انتشار هذه الحرّاقات سبب ضرراً كبيراً للأحياء المائية في نهر الفرات، ما ألحق ضرراً إضافياً بالسكان الذين باتوا يعتمدون على مياه الشرب دون تعقيم، خصوصاً مع توقف محطات التعقيم عن العمل.
فيما يستخدم أصحاب الحرّاقات مجاري النهر مكباً لمخلفات عمليات التكرير البدائية. وفوق ذلك، يتّحد غاز الكبريت المنبعث من النفط مع الأوكسجين في الهواء ضمن ظروف الرطوبة العالية ليشكل أكسيد الكبريت الذي يصيب النباتات والتربة بأضرار جمّة.