× الرئيسية
ملفاتنا
المستشارة
النشرة البريدية
تَواصُل
من نحن
اختر محافظة لتصفح المقالات حلب
الرقة
الحسكة
دير الزور
اللاذقية
طرطوس
إدلب
حماة
حمص
دمشق
القنيطرة
درعا
السويداء
ريف دمشق

حكاية سارة: ما كلّ ناجٍ من الموت.. حي!

حكاياتنا - خبز 01-05-2020

قبل أن تقص عليّ حكايتها، كنت أظن أنني أعرف ذلك الإحساس، وأن آلامنا – نحن السوريين – في الحرب متشابهة، رغم اختلاف حكاياتنا. لكن اتضح لي أن لا شيء يشبه شيئاً، وأن كل حكاية هي حرب بحد ذاتها

(الصورة: Ottavia Massimo - فليكر)

بعض الصور التي نوثقها مرتبطة في ذاكرتنا بأماكن وأوقات، وربما بأحداث معينة. هذا ما كان يخطر لي كلّما ظهرت لي الصورة ذاتها عند إجرائنا مكالمة «واتس أب».
أعرف سارة منذ ثلاث سنوات، لكنني لم أتجرأ يوماً أن أسألها عن والدها. ذات مرة، سألتُ عن الفترة التي أمضتها في دير الزور، وحينها فقط حُلّ لغز صورتها معه، وكم تمنيت لو بقي غامضاً.
«لقد اقترب الموت مني في الدير مرات كثيرة. كلّ مرة كنت أنجو بأعجوبة، لكنني في إحداها تمنيت ألا يحدث ذلك»، تقول لي.
في العام 2014، تنقلت سارة مع عائلتها بين مناطق عدة في دير الزور وريفها، بحثاً عن أكثرها أماناً،  كحال كثير من السوريين في تلك الفترة. 
لم يكن الأمان حينها  - رغم عدم وجوده إطلاقاً هناك - مقتصراً فقط على العيش في منطقة لا تشهد اشتباكات، فمكوثك مثلاَ في بقعة يسيطر عليها تنظيم «داعش»، من دون الامتثال لـ«قوانينه» المتشددة، هو بحد ذاته خطر على حياتك. 
تسترسل سارة وهي تروي أحداث المرة التي تمنّت لو لم تنجُ فيها من الموت.
«سمعنا أصوات إطلاق نار، ففرّ كل قاطني البناء إلى غرفة صغيرة في الطابق الأرضي، ظناً منا أننا سنخفف من حدة الأضرار التي قد تلحق بنا. حينها علمنا أن عناصر أحد الجيشين (السوري، والحر) أطلقوا النارعلى عناصر الآخر، ليرد هؤلاء بوحشية: راحوا يدخلون البيوت، ويقتلون كل الرجال. كنا مشلولي الحركة والتفكير. فقط ننتظر دورنا في الموت! وصلوا البناء، وصبوا البنزين على السيارات الموجودة أمامه. أحرقوها، فانفجرت المحركات. كنا بالكاد نرى ونتنفس، وسط الدخان الذي ملأ المكان».
كنت أستمع إليها، وأنا أتساءل: هل مات أحدهم حرقاً؟ أم اختناقاً؟ أم برصاصة؟ أي أدوات الموت كانت الأسرع؟ ترى؛ هل هناك أصعب من شعور العجز المصاحب للخوف؟
قبل أن تقص عليّ حكايتها، كنت أظن أنني أعرف ذلك الإحساس، وأن آلامنا - نحن السوريين - في الحرب متشابهة، رغم اختلاف حكاياتنا. لكن اتضح لي أن لا شيء يشبه شيئاً، وأن كل حكاية هي حرب بحد ذاتها. 
تكمل سارة «تحسست يدي ودلكتها بعدما فقدت إحساسي بها، لم أفلت يد أبي منذ نزولنا إلى الطابق الأرضي، استدركت على الفور وأعدتها لتتشابك مع يده. خفت أن يحين دوري من دونها. لم أفلتها إلا عند خروجنا بعد مضي ساعات عدة».

اقترب الموت مني في دير الزور مرات كثيرة. كنت أنجو كلّ مرة بأعجوبة

نزوح متكرر واعتقال

بعد فترة، اشتد القصف في مدينة دير الزور، التي كانت مقسومة إلى اثنتين. تحاول أن تشرح لي سلسلة التنقلات المتتالية. تقول «كنا قد نزحنا من الدير إلى الرقة، ثمّ عدنا إلى ريف الدير. وبعد إصرار أبي ذهبنا أنا وأختي إلى منزل عمتي من أجل دراستنا، فمنزلها في منطقة كانت تعد آمنة نوعا ما. استقرّ أبي وأمي و أخي في الريف، أما بيت أهل أبي فكان في المنتصف، على خط النار. خرجوا من ذلك المنزل واستأجروا آخر بعيدأ عن الخط الفاصل، بعد فترة تغيرت مناطق السيطرة، ولم يعد منزل العائلة على خط النار، فعادت أسرتي إليه». 
تصمت لحظات تنظر فيها إلي، وتضيف «حوسة صح؟ معاك حق، تعرفين حتى نحنا ما كنا نعرف شلون عايشين هيك بهالدويخة».
في العام ذاته اعتُقل والد سارة على حاجز للجيش، بعدما وجدوا كتيباَ صغيراً عليه ختم حركة أحرار الشام، في أغراض أسرته التي كان ينقلها من الريف. 
«كانوا يحصلون على تلك الكتيبات من الجامع، ولقد وُجد خطأ في الحقائب» تضيف. 
كان الوالد يومها مع أخيها، وعمتها وأبناء عمتها. 
أوقفوه مع أخيها على الحاجز، أجبروا الطفل على قراءة الصفحة الأخيرة من الكُتيب، وكلما نطق بكلمة الحر أو أحرار أوسعوه ضرباً أمام أبيه. ثم قالوا له: هيا انهض لترى كيف سنأخذ والدك. قلبوا قميص الأب فوق رأسه، ووضعوه في السيارة. بينما أخذوا من تبقى إلى أحد المنازل. وضعوا المرأة في غرفة، وأولادها في أخرى. استخدموا أساليب مختلفة لسحب اعتراف منهم بشيء لم يرتكبوه. خيروهم بين القتل بالساطور، أو إشعال النار في أجسادهم، أو اغتصاب والدتهم، بعد أن أسمعوهم صراخ امرأة ما بواسطة الهاتف. وبعد تلك الحرب النفسية أطلقوا سراحهم .
«في تلك الليلة لم يغمض لنا جفن. مضت على غيابه ستة أعوام، وقد باءت جميع المحاولات لمعرفة مكانه بالفشل».

بكت و بكيت معها. ندمت لأنني جعلتها تتذكر كل ذلك. 
قالت «أنا لم أنس لأتذكر. عند مروري أول مرة بعد اعتقاله على الحاجز نفسه، كنت أرتعش من شدة خوفي، ولكن سرعان ما اختفى ذلك وتغلب الحقد الذي لم أعد أشعر إلا به. عند عودتي إلى البيت فتحت معرض الصور في هاتفي لأرى الصورة الوحيدة التي تجمعني به. كان لا يحب التصوير أبداً رغم محاولاتي الكثيرة. إلا هذه، حصلت عليها بطلب منه قبل يوم الحادثة».
بعد تردد كبير، سألتُها عن حدسها بحالته الآن. فاجأني جوابها: «ستأتي لحظة يخرج فيها. صورة واحدة له في رأسي، تلك التي أُجبر عقلي على رؤيتها: جالساً على الأرض، مثقلاً بالهموم والتعب. لا أسمح لنفسي برؤية غيرها، لأنني أعلم أن كل شيء بشع في ذلك المكان».

زفاف لم الشمل 
تعيش سارة  الآن في أوروبا. عند حضوري احتفال زفافها، اعتقدت أن دموعها التي لم تتوقف كانت بسبب وحدتها في ذلك اليوم، من دون وجود أحد من أهلها.
تقول «قررت وضع خاتم الزواج من الشاب الذي أحببته، بعد رفض دائم لفعلها من دون حضور أبي. كنت لأستمر بتأجيل الخطوة، لكنني اضطررت، لأنها كانت الفرصة الوحيدة للم شملي إلى أوروبا».
وتضيف «في تلك الليلة جاءني والدي في المنام، ولم تكن المرة الأولى. سألته إن كنت أحزنته بفعلي هذا من دون وجوده، ابتسم لي وأجاب: لا. بعث ذلك الحلم طمأنينة في قلبي، وتمسكت به. ربما تلك إجابته الحقيقية، أو ربما هي ما أرغب بسماعه». 
تحدثني عمّا دار في بالها قبل مغادرة سوريا. تقول: «في طريقي إلى المطار بعد موافقة لم الشمل، فكرت بأبي بعد خروجه: كيف سيرى العالم الذي لم يبق فيه شيء على حاله؟ كيف سيتلقى خبر وفاة الذين ماتوا؟ بماذا سيشعر عندما يعلم بزواجي؟ كم سيكون عمره؟ وكم سيبقى منه؟»


Share!

لا يتبنى «صوت سوري» أي توجه مسيس للملف السوري ولا تقف وراءه أي جهة سياسية.
نحن نراهن على دعمك لنا في الوصول إلى جميع السوريين والسوريات.

إذا رأيت أن خطابنا يستحق الوصول انشري / انشر هذا المقال من فضلك

لديك تصويب أو ملاحظة؟ تفضل/ي بالتعرف إلى محررة القراء والتواصل معها