رنيم غسّان خلّوف - كاتبة ضيفة
الصورة: (مدينة الباب - ريف حلب الشرقي / أرشيف صوت سوري)
في الشهر الثامن من هذا العام ارتفعت درجات الحرارة فوق معدلاتها الطبيعية، وعلت صيحات الفلاحين في غالبية المحافظات السورية.
كان الصوت أعلى في طرطوس الساحلية التي ناشد فلاحوها الجهات المعنية توفير المياه، وكذلك الأمر في ريف دمشق، وخاصة في الغوطة الشرقية، حيث اتجه كثير من أصحاب الأراضي الزراعية إلى سقاية أراضيهم بمياه الصرف الصحي، ما يُعتقد أنه أسهم في تفشي الكوليرا نهاية الصيف.
تشير معطيات نشرتها الأمم المتحدة إلى أنّ الزراعة تستهلك نسبة 70% من المياه في سوريا، فيما سبق أن قال البنك الدولي في العام 2020 إنّ الشرق الأوسط وشمال إفريقيا من أكثر المناطق التي تعاني من الإجهاد المائي، في حين أنّ 82% من المياه لا يستفاد منها بالشكل الصحيح.
نقطة التحوّل
يتصدر العام 2050 مستشعر الخطر المائي الذي تتحدث عنه الدراسات، ففي ذلك الزمن يُتوقع أن يشهد العالم أزمة مائية كبيرة ناجمة عن استخدامات جائرة، وتغيّرات مناخية واضحة.
في هذا السياق، يقول منهل الزعبي، وهو دكتور في كلية الزراعة بجامعة دمشق: «تتجه سوريا نحو الجفاف خلال الأعوام الخمسين المقبلة نتيجةً للتغيرات المناخية، وقد تنجم أزمة كبيرة في حال عدم اتخاذ التدابير اللازمة».
يرى الزعبي أنّ هذه الأزمة «ترتبط بحالة الخزان الجوفي، بمعنى أنّ التدابير المحلية تؤثر تأثيراً مباشراً في استخدامات الخزان وتلوّثه، فحركة المياه الضحلة التي نعتمد عليها الآن ليست جيدة، ولذلك يُعد الوصول إلى الاستخدام المستدام للمياه الجوفية هدفاً يصعب تحقيقه لكثير من طبقات الخزان الجوفي المستغل على نطاق واسع».
لقد أدى الضخ الميكانيكي للمياه منذ منتصف القرن العشرين إلى زيادة كبيرة في استخراج المياه الجوفية، ومع أنّ الزراعة هي المستهلِك الأول، فإن الكميات المستخرجة على المستوى المحلي في أنحاء المناطق الحضرية قد تكون أكثر كثافة.
ينعكس هذا الاستنزاف التراكمي للمياه الجوفية، ونوعيتها، سلباً: اجتماعياً، واقتصادياً، وبيئياً، فيما أسهم ضعف الرقابة على الكميات المُستجرّة في زيادة الاستنزاف، وتلوّث المياه.
أيضاً، لوحظ تناقص في الهطل المطري في الشتاء عاماً بعد عام، ما يؤدي بشكل عام إلى انخفاض في كمية مياه الجريان السطحي، ومخزون المياه اللازمة للزراعة، والصناعة، والشرب، وهذا يجعل نوعية المياه سيئة بسبب زيادة ملوحتها.
يوافق خبير مائي يقطن في شرقي سوريا على كلام الزعبي بشأن التغيّرات المناخية، والهطولات المطرية، والاستجرار الجائر، مشيراً بدوره إلى زراعات تنقرض بسبب قلة المياه في المنطقة الشرقية مثل القطن، مضيفاً أنّ «نهر الفرات العظيم انخفض جريانه بسبب كثرة التعديات التركية».
يقدّم الخبير، الذي فضّل عدم الكشف عن اسمه جملة من الإحصاءات عن بعض الأنهار، والأحواض، وحجوم المياه التي كانت متاحة فيها العام 2016، مقابل الطلب المتوقع عليها في العام 2050.
ووفق هذه البيانات، كان حجم المياه المتاحة العام 2016 في نهر الفرات 7933 مليون متر مكعب، أما الطلب المتوقع بحلول 2050 فهو 8073 مليون متر كعب، والمتاح في دجلة والخابور عام 2016 كان 2207 مليون متر مكعب، بينما يتوقع ارتفاع الطلب في 2050 إلى 4463 مليون متر مكعب، ويتكرر التباين في ما يخص العاصي مع 2246 مليون متر مكعب العام 2016، مقابل طلب متوقع حجمه 3142 مليون متر مكعب في 2050.
وبالعموم، يتوقع خُبراء أن يكون لتغير المناخ تأثير شديد على موارد المياه في سوريا، ما سيقلل إجمالي المياه المتاحة سنوياً بنسبة 32% في العام 2050. وفي الوقت نفسه، سيزداد الطلب على المياه بنسبة 15% نتيجة للنمو السكاني.
تُظهر التوقعات فجوة كبيرة تستدعي التفكير في طرق للتعويض، والبحث عن خطط بديلة لمواجهة حالة من التصحّر، ونقص المياه، التي تؤدي انعكاساتها إلى انخفاض في الإنتاجية العلفية. وسيفرض تغيّر المناخ تهديدات جديدة على معيشة الرعاة، ومربي المواشي، وعلى خدمات النظام البيئي الرعوي، والاقتصاد الوطني بمجمله، وفق الزعبي.
تتجه سوريا نحو الجفاف خلال الأعوام الخمسين المقبلة نتيجةً للتغيرات المناخية، وقد تنجم أزمة كبيرة في حال عدم اتخاذ التدابير اللازمة
في المقابل، كثيرة هي الحملات التي تحاول من خلالها الحكومة والمؤسسات المدنية في سوريا نشرَ فكرة الحفاظ على المياه. وفيما يشاع أنّ دمشق ستتعرض للجفاف تماماً في العام 2050، يقول الزعبي: «من الدراسات وخبرتي الشخصية ستعاني دمشق خلال 2050 من آثار التغيّرات المناخية والجفاف، ولكن ليس بالمبالغة التي تقال».
أما بخصوص الساحل السوري، فيشير الأستاذ الجامعي إلى أنّ حوض الساحل لا يعاني عجزاً مائياً لأنه غير مستنزف، «لكنّ الأزمة الحقيقية هي أزمة طاقة تؤدي إلى عدم القدرة على الاستفادة من المياه، وهذا السبب الرئيس لأزمة الفلاحين هذا العام»، فيما يتوقع الخبير الثاني أنّ المنطقة الشرقية ستعاني من الجفاف سنة كلّ ثلاث سنوات بسبب التغيّرات المناخية التي يزيد من شدّتها قطع تركيا مياه الفرات، وجفاف نهر الخابور.
انتهى زمن الرقابة
يقول محمد علي، وهو فلاح ستيني من ريف حمص الغربي، إنّه يحصل كلّ 10 أيام على مياه الري عبر الشبكة العامة ليسقي وجيرانه مزروعاتهم صيفاً وشتاءً، ما جعله يمتنع عن الزراعة لأنّه خسر موسمه من الباذنجان العام الفائت.
ينحدر الرجل من قرية فيها ثلاثة ينابيع مياه، وبئر ارتوازي حكومي، فيما تصلها مياه الشرب مرةً كلّ 15 يوماً، كحال كثير من القرى في حمص، والساحل، ومصياف.
ثمة مشكلة أخرى يشير إليها أحد المهندسين الزراعيين، وهي أنّ مظاهر تلوّثٍ بدأت تشوب المياه في المناطق الوسطى، والساحلية، لا بسبب تسرّب مياه الصرف الصحي فحسب، إنّما أيضاً بسبب الكثير من الأسمدة الكيمائية في التربة، وبقايا الحرب ومخلفاتها.
وفيما ترى غالبية الباحثين أنّ الحرب المقبلة في المنطقة ستدور حول المياه، يمكن القول استناداً إلى ما ذكره البنك الدولي أنّ المياه لم تكن بمنأى عن الصراع الدائر في سوريا منذ 2011، وهي الفترة التي انتُهكت فيها كثير من قواعد الأمن المائي دون رقيب. لا يوجد مثلاً عدد رسمي، أو غير رسمي، عن عدد الآبار العشوائية التي حُفرت خلال 11 سنة في جميع المناطق، علماً أنّه عامل بارز يتهدّد خزان المياه الجوفي.
وبعيداً عن التوعية وحملاتها، يتحدث المختصون عن حلول لتجنب كارثة مائية، منها التكيّف مع التغيّرات المناخية، واتخاذ تدابير على المستوى الزراعي والمائي عبر تغيير الممارسات الزراعية، والتحوّل إلى الزراعة الذكية، والريّ الحديث، وأيضاً استعمال الأصناف المقاومة للجفاف، وحصاد مياه الأمطار، ونشر الزراعة الحافظة في المناطق المناسبة لها.
ولعلّ من الإجراءات المفيدة أيضاً رفع كفاءة استخدام المياه، وتقديم المقنن المائي إلى النبات دون زيادة، واستخدام المياه غير التقليدية، وبعض المحسنات، والتشدد في التعامل القانوني مع حفر الآبار العشوائية، لأنّها عامل أساسي في استنزاف خزّان المياه الجوفية.
لديك تصويب أو ملاحظة؟ تفضل/ي بالتعرف إلى محررة القراء والتواصل معها
This work
by
SOT SY
is licensed under
CC BY-ND 4.0