× الرئيسية
ملفاتنا
المستشارة
النشرة البريدية
تَواصُل
من نحن
اختر محافظة لتصفح المقالات حلب
الرقة
الحسكة
دير الزور
اللاذقية
طرطوس
إدلب
حماة
حمص
دمشق
القنيطرة
درعا
السويداء
ريف دمشق

عاش القرنفل.. مات سالازار: مسيرة البرتغال الطويلة نحو الديمقراطية

عقل بارد - شعوب وحروب 18-02-2024

صار القرنفل أيقونة لشبونة وثورتها على سالازار الذي ظل لسنواتٍ جاثماً على الصدور رغم موته. فكيف وصل البرتغاليون إلى تلك الوردة؟ وما الذي عنته تلك اللحظة التاريخية لمصير البلاد؟

الصورة: معرض استعادي في إحدى ساحات لشبونة، في الذكرى الأربعين لثورة القرنفل (Birgitt Kratzke - فليكر)

في ما يشبه بداية النهاية لأطول ديكتاتورية أوروبية في العصر الحديث، تدهورت فجأة في صيف العام 1968 صحة ديكتاتور البرتغال أنطونيو سالازار: ورم دموي في المخ، وسكتة دماغية أعقبتها غيبوبة.

ومع أنه نجا من الموت، فقد تضاءلت قدراته بشدة إلى درجة أنّه كان لا بد من العثور على خليفة له بعد أن شغل منصب «رئيس مجلس الحكم» ستةً وثلاثين عاماً، أي منذ العام 1932.

حلّ محلّه مارسيلو كايتانو في 25 أيلول/سبتمبر 1968. كان عميداً سابقاً لجامعة لشبونة، ويحظى بدعم الدوائر الاقتصادية والجيش. غدا النظام أكثر مرونة في الهامش، ولكنّ الإصلاحات اقتصرت على تنظيف الأسطح دون أن تطال الجذور العميقة للنظام الاستبدادي.

توفي سالازار في 27 تموز يوليو 1970 عن عمر ناهز 81 عاماً، فيما واصل كايتانو عمل سلفه كأن شيئاً لم يكن. مبدأ «التطوّر في الاستمرارية» هو الحاكم.

لكنّ تلك التغيرات كانت بداية النهاية حقاً. تفكّكت سطوة النظام، وراح يفقد ركائز قوته واحدة تلو الأخرى حتى حلّت ليلة 25 نيسان/أبريل 1974 وكانت «بلون القرنفل». يومها شرع عدد من الضباط النقباء بتنفيذ انقلاب عسكري، تحوّل بسرعة كبيرة إلى ثورة ستُعرف بـ«ثورة القرنفل».

ثورة ستفتح الباب أمام ما بات يعرف بـ«التحوّل من الديكتاتوريات إلى الديمقراطيات الإيبيرية»، (نسبة إلى شبه الجزيرة الإيبيرية، التي تضم إسبانيا والبرتغال، ومعهما أندورا، وإقليم جبل طارق)، إذ ستغدو الجارة إسبانيا الحلقة الثانية ضمن هذا التحوّل منذ اليوم التالي لوفاة الجنرال فرانسيسكو فرانكو (20/11/1975)، ثم التحول نحو الملكية البرلمانية عبر مسار أسهم فيه بفاعلية الملك خوان كارلوس الأول.

غير أنّ التحوّل الديمقراطي في البرتغال لم يحدث دفعةً واحدةً، وإنّما ضمن مسار طويل شهد: الحروب الاستعمارية، وتجديد التعبئة الاجتماعية والعمالية، والطالبية على وجه الخصوص، منذ بداية الستينيات حتى الانضمام إلى الكتلة الأطلسية والجماعة الأوروبية. وبعيداً عن المصادفة التاريخية للمرحلتين الانتقاليتين في البرتغال وإسبانيا، تظل المقارنة مفيدة رغم الخصوصيات الوطنية، ولا سيما في ما يتعلق بدور الجيش والمسألة الاستعمارية.

وهذان التحوّلان الديمقراطيان اللذان غالباً ما يضاف إليهما التحوّل اليوناني (1974)، باتا في وقت لاحق من ثمانينيات القرن العشرين وتسعينياته، مثالين للتفكير في التحوّل الديمقراطي في دول أميركا اللاتينية.

السّالازاريّة: قياماً وحطاماً

كانت الجمهورية البرتغالية التي تأسست العام 1910 تعيش حالةً من عدم الاستقرار. تمزّقها تناقضات داخلية ومشكلات هيكلية عجز الجمهوريون عن حلّها. وفي الوقت نفسه، أدت الهجمات المستمرة من قبل الملكيين، والأزمة الاقتصادية (الوطنية والأوروبية)، والاضطرابات الاجتماعية المستمرة، إلى تفاقم السّخط الاجتماعي، بخاصة بين الطبقات العاملة الأكثر حرماناً. ومن جانبها، سعت البرجوازية الكبيرة المؤلّفة من كبار الصناعيين والمصارف، إلى تهيئة مناخ من الهدوء الاجتماعي لتنمية طموحاتها المزدهرة. أما الكنيسة الكاثوليكية، فسعت إلى استعادة الامتيازات التي خسرتها أثناء إضفاء الطابع المؤسسي على الجمهورية العلمانية.

اعتبرت قيادات الجيش أنّ تدخلها ضروري لاستعادة النظام وإنهاء الاضطرابات الاجتماعية، وانتهى الأمر في 28 أيار/مايو 1926 بانقلاب من اليمين العسكري، وفرض ديكتاتورية لن تنتهي إلا بعد 48 عاماً. هكذا انتهت الجمهورية الأولى، مع الانتقال من سياسة التقدّم الاجتماعي والسياسي الذي بدأ على مدى الأعوام الستة عشر الماضية، إلى سياسة التراجع والقمع والتواطؤ مع الكنيسة.

خوفاً من التقدّم الشيوعي وإمكانية سيطرة الأحزاب الشيوعية على شبه الجزيرة الإيبيرية، دعمت الأنظمة الغربية سالازار في البرتغال وفرانكو في إسبانيا

ظلّت البرتغال تحكمها ديكتاتورية عسكرية نموذجية حتى العام 1933. قُمِعت الحقوق والحريات الأساسية إبّانها، وإنّما دون الشروع في إضفاء الطابع المؤسسي على هيكل جديد للدولة. مع نهاية عقد العشرينيات عُيِّن أستاذ الاقتصاد في جامعة كويمبرا، أنطونيو دي أوليفيرا سالازار، وزيراً للمالية. واجه الواقع الاقتصادي الكارثي في البلاد بتسوية الأوضاع المالية، ما سمح له بالظهور أمام الأمة باعتباره «منقذ الدولة»، أو الشخص الذي أعاد النظام المفقود.

أيضاً سمحت هذه النتائج لسالازار بالتدخل تدريجاً في المشكلات السياسية والعسكرية، خاصة أنّه حظي بدعم المصارف ورأس المال الطامحين إلى التوسع دون قيود وحماية الذات من الصراعات الطبقية وحركات الإضراب والاضطرابات الاجتماعية والكنيسة.

كان المثقفون اليمينيون، ومعظمهم من أساتذة جامعة كويمبرا، بالإضافة إلى أنصار الملكية، مقتنعين بأنّ سالازار سيعيد النظام الملكي. ولكن في العام 1932، حين غدا الرجل رئيساً للمجلس الرئاسي، نجح بالتوافق مع الجيش والبرجوازية الكبيرة في إنشاء نظام قوي ومأسسة الديكتاتورية الفاشية بعد إقرار دستور جديد في العام 1933.

حدّد هذا الدستور المبادئ الأساسية التي سمحت بالنشاط الشمولي والقمعي للدولة التي أطلقت على نفسها اسم: الدولة الجديدة. فقد أنشأ هذا النص الرقابة وحظر الأحزاب السياسية والجمعيات النقابية والمدنية. كما أنشأ جهاز الشرطة السياسية وأقرّ نظام الحزب الواحد.

وإذ نجحت في الأثناء الديكتاتورية في تحقيق التراكم الرأسمالي على المستوى الاقتصادي، نشأت احتكارات كبيرة وأثبت حجمها وقوتها الاقتصادية أنّها غير متناسبة مع بلد كان من أفقر البلدان في العالم. ومع ذلك، تسامحت الأنظمة الأوروبية مع الديكتاتورية البرتغالية. دعمت بريطانيا، الحليف الاقتصادي التقليدي للبرتغال منذ القرن الرابع عشر، النظام في مقابل الحفاظ على مصالحها الاقتصادية. فيما تجاهلت باريس الضغوط التي مارسها المنفيون السياسيون البرتغاليون، واستأنفت علاقاتها مع لشبونة.

رغم أنّ هزيمة الفاشية في العام 1945 تتوافق وفق صاموئيل هنتنغتون مع «الموجة الثانية للتحوّل الديمقراطي» (ألمانيا الغربية واليابان والنمسا وإيطاليا وكوريا)، فإنّ هذا لم يعنِ نهاية أي من النظامين الديكتاتوريين في إسبانيا أو البرتغال. خوفاً من التقدّم الشيوعي وإمكانية سيطرة الأحزاب الشيوعية على شبه الجزيرة الإيبيرية، دعمت الأنظمة الغربية سالازار في البرتغال وفرانكو في إسبانيا.

شكّل دعم البرتغال السرّي للحلفاء بعد نهاية الحرب العالمية الثانية من خلال التنازل عن قاعدة لاجيس الجوية/ Lajes Air Base للبريطانيين ثم للأميركيين، دافعاً قوياً للنظام الديكتاتوري، وأكسبه مكانةً ضمن تحالفات الدول الرأسمالية في مرحلة ما بعد الحرب. وهكذا صارت عضواً مؤسساً في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية في العام 1948، وفي منظمة حلف شمال الأطلسي في العام 1949، وفي رابطة التجارة الحرّة الأوروبية في العام 1960.

وعلاوة على ذلك، كانت البرتغال من أوائل الأعضاء الذين قبِلوا في الأمم المتحدة في العام 1955، ولكن على النقيض مما قد يتصوّره المرء، ازدادت شدّة القمع. في الوقت نفسه حافظ النظام الديكتاتوري على الأيديولوجية الاستعمارية للجمهورية الأولى، وسعى بنشاط للحفاظ على المستعمرات إذ يعتبرها أحد مصادر الهيبة والفخر الوطني.

لهذا السبب، كان سالازار مهتماً دائماً بمشكلات المستعمرات وحاول حلّها. ولكن في الخمسينيات والستينيات ظهرت مشكلات واحتياجات جديدة، وبدأ الرجل وحكوماته بتطوير مفهوم البرتغال لما وراء البحار، وانتهى بهم الأمر إلى تحديد حلّ وسياسة برتغاليين جديدين بالخصوص. ولكن بسبب صعود عقيدة إنهاء الاستعمار دولياً بعد الحرب العالمية الثانية، بدأ سكان المقاطعات البرتغالية في ما وراء البحار أيضاً بالبحث عن حقوقهم. وهذا ما أدى إلى نشوب حرب ما وراء البحار (1961-1974)، التي سُوّقت بوصفها «حرب قضاء على متمردين وإرهابيين»، فيما خاضها سكان المستعمرات بوصفها حروب استقلال.

بموازاة ذلك، تصاعدت منذ بداية الستينيات حركة سياسية معارضة تطالب بإسقاط النظام. وإلى جانب الحركات الاجتماعية والسياسية التي حاربت النظام (سراً)، سيحتل لاعب جديد مكانة مهمة في المشهد السياسي الوطني: الجيش.

وهكذا، في نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات، تجلّت المعارضة داخل القوات المسلحة، معلنة عن الضيق الذي أنذر بتشكيل «حركة القوات المسلحة» بعد أكثر من عشر سنوات. وتدهور دعم القوات المسلحة للديكتاتورية بشكل أكبر مع قدوم الحرب الاستعمارية.

من مظاهرات ثورة القرنفل - مصدر الصورة: Documentation Center April 25

دروس التحوّل الديمقراطي

في العام 1973، بدأت مجموعة من الضباط المهنيين حركة تمرّد نمت شيئاً فشيئاً، وحوّلت المطالب البسيطة حول إصلاح الجيش، إلى رغبة في تغيير النظام. وهذه الحركة: حركة القوات المسلحة، هي التي ستقود في 25 نيسان/أبريل 1974، إلى إسقاط أطول ديكتاتورية في أوروبا.

شكّلت مظاهرات الدعم الشعبية التي تلت ذلك أساس الطابع المزدوج لهذه الثورة: ثورة عسكرية تحوّلت إلى ثورة عسكرية وشعبية. ولذلك فإنّ هذا الطابع المزدوج هو الذي يسمح بالقطيعة مع النمط القديم للتنظيم الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، وكذلك إضفاء الطابع المؤسسي على نظام جديد.

شكّل هذا الاتحاد بين العمل الشعبي المدني والعمل العسكري خصوصية العملية الثورية البرتغالية وطبيعة التحوّلات الاجتماعية التي ستتبعها. ومن هذا الاتحاد ولد توجه عام ما زال قوياً، يرمز إلى العلاقة الوثيقة التي نشأت بين القوات المسلحة والسكان. فقد شكّل الجيش البرتغالي أحد الأعمدة الأساسية للديكتاتورية، ولذلك كان تحوّل عقيدته فاعلاً للتغيير، وأحد أعمدة الثورة والتحوّل الديمقراطي.

العامل الإقليمي في تداخله مع تطلعات الطبقة الاقتصادية المهيمنة، جعل من إمكانية التحوّل الديمقراطي ممكنةً، بل شجع عليه

أما العوامل التي جعلت هذا التحوّل ممكناً، فهي أولاً التنازلات التي قدمتها نخب النظام الديكتاتوري لكي تتفاوض بشأن خروجها، وأيضاً النخب الاقتصادية بهدف الدخول في المجموعة الاقتصادية الأوروبية التي تقدّم العديد من المنافذ الاقتصادية للطبقات الحاكمة ولكن المشروطة ببناء نظام ديمقراطي قائم على أساس احترام حقوق الإنسان والحريات السياسية الرسمية.

أي أنّ العامل الإقليمي في تداخله مع تطلعات الطبقة الاقتصادية المهيمنة، جعل من إمكانية التحوّل الديمقراطي ممكنةً، بل شجع عليه. أما العامل الثالث، فهو حالة توازن القوى بين الطبقات الحاكمة والتعبئة الاجتماعية، وبخاصة العمال. فقد أدى التحديث الرأسمالي للاقتصاد البرتغالي إلى ولادة طبقة عاملة حضرية تتمحور حول العمل النقابي القانوني والسرّي.

ومنذ بداية الستينيات إلى بداية السبعينيات خاضت الدولة حروباً لقمع حركات الاستقلال في المستعمرات، وقد خلّف التعب من الحروب الاستعمارية ذات الكلفة الباهظة لناحية الرجال والموارد المالية، قناعةً حاسمةً في فهم تسييس ومعارضة ضباط الجيش والاختلالات الاقتصادية. لذلك نجحت الحركة الشعبية المكوّنة من طبقة عاملة واسعة وطبقة وسطى قوية ومسيّسة، من تحويل الانقلاب العسكري إلى عملية ثورية، ولاحقاً إلى مسار تحوّل ديمقراطي.

تالياً، نجحت الحركات الشعبية ذات القوة المتزايدة بعدما تم تنظيمها في النقابات ولجان العمال والجنود والمقيمين، بالإضافة إلى استخدام الإضراب العام، في دفع الضابط سبينولا الذي نفذ الانقلاب العسكري، إلى المنفى، قاطعةً أمامه طريق إعادة إنتاج النظام على نحو جديد.

وقد دأبت دراسات التحوّل الديمقراطي المعاصرة على عدم الأخذ في الاعتبار العمل الذي طوّرته الحركات الاجتماعية والسياسية في البرتغال منذ العام 1969، بما يعني إنكاراً للجانب المركزي الذي أدى إلى تفكك الديكتاتورية، والذي سمح لنا أيضاً بفهم أفضل للطابع الشعبي للثورة البرتغالية وكذلك للخيارات السياسية التي اتُّخذت بعد ذلك وحققت من خلالها الطبقات الشعبية مكاسب اجتماعية هائلة.

لكن في نهاية المطاف، ما زالت آثار الحقبة الديكتاتورية الطويلة، والقاسية خلافاً لأسطورة التحوّل السلمي، قويةً ومؤثرة في قطاع واسع من المجتمع البرتغالي. ترافقها مطالب بإعادة التفاوض بشأن الذاكرة التاريخية التي تُعدّ وريثة للخيال الوطني الإمبريالي الذي بناه أنطونيو سالازار. يطالب ضحايا الحرب والمرحلة الانتقالية أمام المحاكم بالتعويض، وباستخراج الجثث من المقابر الجماعية، وبجبر الضرر، ضد السرد التاريخي الذي ساد خلال الفترة الانتقالية وخلاصته أنّ: الحرب مجرّد صراع بين أشقاء، يتقاسم مسؤوليتها الجميع.