مية السلامة
تعتبرها أحد أولادها. هكذا تنتظر ابتسام أبو راس بفارغ الصبر موسم قطاف «الوردة الشامية»، شأنها شأنَ أغلبية أهالي قرية النيرب (ريف حلب الجنوبي الشرقي) الذين يعتنون بهذه الوردة اعتناءً فائقاً، فهي ليست مصدر رزق فحسب، ولا مجرّد نبتة تفتّحوا على رائحتها العبقة، بل هي أيضاً إرث الآباء والأجداد الذي يحاول الأبناء المحافظة عليه بالسبل كافة وإن شحت الموارد والإمكانات.
تروي أبو راس: «مع ساعات الفجر الأولى يذهب أفراد العائلة جميعاً برفقة (الحوّاشات) إلى حقول الوردة، لنجد كل أبناء القرية في حقولهم، وسط أجواء من المحبة والألفة، وكأن هذه الوردة بروائحها العطرة ولونها الجميل تنثر الحياة والطاقة الإيجابية في نفوس الأهالي، الذين يحرصون على قطافها في ساعات الصباح كي لا يذبل الورد ويفقد قيمته وجماله».
وتؤكد أبو راس أن كل عائلة تحصل على احتياجاتها من الورد لصنع الزهورات، وشراب الورد، ومربّى الورد الذي يعد طبقاً أساسياً على موائد الطعام في النيرب، وفي مدينة حلب التي منحته مكانةً خاصّة على موائد فطورها المحبّبة. لكن في ظل ضعف الإمكانات المادية للأهالي «ما عادوا قادرين للأسف على صنع المربيات بكميات كبيرة والاستفادة منه بشكل أكبر». وتضيف أنهم يجتمعون «في مهرجان الوردة الشامية لصنع المربي جماعياً احتفاءً بهذه النبتة التراثية وعيش طقوسها بأدق التفاصيل للمساهمة في إحياء هذا التراث الإنساني».
«طقس من أجمل الطقوس»
«إنها حياة أهل النيرب ومصدر رزقهم الوحيد»، هكذا تقول مريم حمدو، واصفة هذه الوردة بأنها جزء حي لا يموت من تراث عريق لا يمكن الاستغناء عنه. وتضيف أنها منذ صغرها، تعلّمت أن الوردة تُعامَل باعتبارها فرداً من أفراد العائلة، والحال ذاته تكرر عند زواجها، إذ صارت تهتم بها برفقة أولادها وزوجها، «فالاهتمام بزراعتها ليس فقط من أجل العيش، بل أيضاً لأنها من رائحة الأجداد والآباء».
وتتفق مريم مع ابنة قريتها ابتسام في اقتصار معظم العائلات هذا العام على تصنيع كميات محدودة من شراب ومربّى الورد للمونة بسبب الظروف القاسية، مع العلم أن «طعم مربى الورد المصنوع في النيرب لا يعادله طعم أي مربى أخرى»، كما أن تناوله في بداية الموسم «أطيب وأشهى»، وفقاً لها.
أما الشابة سهى الحاج مصطفى فتُذكّر أثناء مشاركتها في موسم القطاف الذي تعده «طقساً من أجمل الطقوس»، بأن الوردة الشامية «مدرجة على لائحة التراث الإنساني العالمي». كما تطالب «بدعم زراعتها عبر تقديم المعدات اللازمة كآلات التقطير، بحيث يمكن الاستفادة من مزاياها التي لا تتوافر في أي نوع آخر من الورد».
وتوضح سهى أنها تُقطر الورد لصنع «ماء الورد المفيد جداً للبشرة»، وتتساءل: «ما المانع من مد الأهالي بكل المستلزمات اللازمة لصنع مستحضرات طبية وتجميلية بدل الاكتفاء بصنع شراب الورد والمربى، وتحسين معيشة المزارعين؟!».
إهمال.. وعزوف عن الإنتاج
يزرع أهالي النيرب بعض المزروعات اللازمة لمعيشتهم اليومية، لكن للوردة الشامية خصوصيتها، كونهم يعتمدون عليها في حياتهم وينتظرونها كل عام من أجل تدبير أحوالهم الاجتماعية والاقتصادية، وفق ما يقول المزارع علي الخليل.
لا تعود التسمية إلى العاصمة دمشق التي تُلقَّب بـ الشام، وإنما إلى بلاد الشام عامةً وفق مختار النيرب محمود شرفو
يوضح الخليل أن المزارعين يضطرون إلى «بيع محصولهم فوراً للتجار بسبب ضعف إمكاناتهم المادية». وبينما يحتفظون بجزء من المحصول لوضعه في مشروب «الزهورات» أو صنع المربى والشراب، يتولى التجار بيعه وتسويقه ويحصدون الأرباح.
لكن الخليل يشدد على واقع تعرض المحصول «للإهمال ومحدودية الدعم»، مضيفاً أنه قدّم لبعض الجهات المعنية دراسة دقيقة تتضمن المساحات المزروعة بمحصول الورد، مع أسباب عزوف المزارعين عن زراعته لتعرُّضهم لخسائر كبيرة بسبب التغير المناخي وعجزهم عن توفير مستلزمات زراعته. كما طالب في هذه الدراسة بتأمين مستلزمات الزراعة الأساسية، لكنها لم تلقَ أي استجابة، فيما يستمر التراجع وتقلص المساحات المزروعة.
الموسم في حلب.. تجارة وزاد ولذة
في موسم القطاف تُعرض الوردة الشامية في أسواق مدينة حلب، وتبادر النساء إلى شرائها لإعداد شراب الورد أو المربى. تقول السيدة جورجيت برغل إنها تصنع مربى الورد كل عام لكن تأكله «أولًا بأول» ولا تحتفظ به «لأنه يفقد لذّته وطيبه».
وتوضح أنها أكلة موسمية لا يحبذ تخزينها لمدة عام كامل، وتختلف عن مربى المشمس والكرز وغيرهما من المربيات عند تخزينها، قبل أن تستدرك بالقول: «يبقى مربى الورد المصنوع من الورد النيربي الأكثر لذة وجودة».
تؤيد الأربعينية إكرام محمود هذا الرأي، شارحةً أنها بمجرد رؤية الوردة الشامية معروضة في الأسواق تبادر إلى شرائها وإعداد المربى منزلياً، إذ لا تفضل شرائه جاهزاً. لكنها تعده بكميات تكفي عائلتها لمدة طويلة، «فحتى وإن تغير طعمه قليلاً مع مرور الوقت فإنه يبقى شهياً».
أما المهندسة الزراعية وفاء جمعة، فتؤكد اعتمادها على الوردة الشامية بمثابة مصدر رزق لها. وتوضح أنها أطلقت مشروعها الخاص في مجال تصنيع شراب الورد والمربيات نتيجة خبرتها بهذا المجال واختصاصها العلمي، لافتة إلى أن منتجات الوردة الشامية تلقى رواجاً في المجتمع الحلبي، بخاصة أن مربّى الورد وشرابه «يعدّان من أفضل الأنواع ويتمتعان بطعم شهي عند إعدادهما يدوياً وعدم إدخال أي مواد ومنكهات صناعية».
التسويق عشوائي
يوضح مختار بلدة النيرب ورئيس «جمعية الوردة الشامية» محمود شرفو أن التسمية «لا تعود إلى العاصمة دمشق إذ تُلقَّب بـ الشام، وإنما إلى بلاد الشام عامةً». يضيف: «انتشرت الوردة الشامية في ريف دمشق وأرياف حماة واللاذقية، لكن الوردة النيربية الأفضل في الرائحة والطعم، وحتى عند استعمالها في تصنيع المربى والشراب والمنتجات العطرية والتجميلية والدوائية تعطي نتائج أفضل». ويعود ذلك إلى «المناخ الملائم الذي لا يتوافر في مناطق كثيرة».
كما يشير شرفو إلى أن «عمر زراعة الورد في النيرب يقارب 150 عاماً، لكن عمرها في المراح بريف دمشق قد لا يتعدى سنوات، وحتى مع تراجع زراعتها خلال سنوات الحرب وتأثر المزارعين بارتفاع تكاليف الإنتاج، تظل الكمية الأكبر هنا في النيرب».
أيضاً يؤكد أن «أغلب العائلات النيربية تعمل في مجال زراعة الوردة الشامية»، علماً أن عدد المنتسبين إلى الجمعية قارب الـ106 أعضاء، وكل منهم لديه عائلة تعمل في زراعة الوردة وتسويقها. ويشدد المختار شرفو على ضرورة منح هذه الوردة «حقها من الاهتمام والدعم عبر المساهمة في تقديم جزء من مستلزمات الإنتاج كغيرها من المحاصيل الزراعية، وتحديداً المساهمة في الحصول على قروض الطاقة البديلة، ومنح المزارعين معدات للتقطير بدل بيع المحصول خاماً للتجار».
ويختم بالإشارة إلى أن أهمية تطوير تسويق المحصول وإيجاد آليات أكثر إنصافاً تكمن في «المحافظة على القيمة الطبية والجمالية للوردة بدل تسويقها بطريقة عشوائية تحرمها كثيرًا من مزاياها».
لديك تصويب أو ملاحظة؟ تفضل/ي بالتعرف إلى محررة القراء والتواصل معها
This work by SOT SY is licensed under CC BY-ND 4.0