× الرئيسية
ملفاتنا
المستشارة
النشرة البريدية
تَواصُل
من نحن
اختر محافظة لتصفح المقالات حلب
الرقة
الحسكة
دير الزور
اللاذقية
طرطوس
إدلب
حماة
حمص
دمشق
القنيطرة
درعا
السويداء
ريف دمشق

«الجنة تبدأ عند أرضي».. يوم مع مزارعي الفستق الحلبي في ريف حماة

حكاياتنا - خبز 29-08-2024

مع ساعات الصباح الأولى، على الطريق الدولي الممتد شمال مدينة حماة، رويداً رويداً تتكشف أمامي مساحات شاسعة من الأراضي، يمتزج فيها بشكل ساحر لون التربة البني الغامق مع أشجار صغيرة خضراء، تحمل عناقيد من حبات حمراء بعضها موشّح بالأبيض. إنها حقول الفستق الحلبي، «ذهب سوريا الأحمر»، تبدأ في ريف حماة الشمالي من معردس وصولاً إلى مورك، ومن بعدها إدلب فحلب

عند أطراف بلدة صوران التي تبعد عشرين كيلومتراً شمال حماه، أدخل حقلاً شاسعاً يمتد على مساحة خمسة وأربعين دونماً، لتستقبلني عائلة محمود طالب إبراهيم، مع رائحة فريدة يعبق بها الجو تطلقها أغصان الفستق مع قطفها وخروج سائل صمغي منها. أستنشق الهواء النقيّ ملء رئتي، وتمتد إليّ يد عليها آثار عملية القطاف، وهي تحمل كأساً من الشاي أضيفت إليه بعض حبات الفستق الطازجة: «أهلاً بكِ في حقلنا. هنا تبدأ الجنة، عند أول شجرة»، يقول محمود، أبو طالب (45 عاماً)، وهو من كبار مزارعي الفستق الحلبي في البلدة، مبتسماً.

يتحدث إبراهيم بعينين لامعتين عن فرحته بأول إنتاج يجنيه منذ أحد عشر عاماً، فهو ممن اضطروا لمغادرة البلدة بسبب المعارك التي دارت في كامل المنطقة، وحين عاد إلى منزله وحقله قبل أربع سنوات وجد معظم أشجاره، وعددها يتجاوز خمسمئة، محروقة أو متضررة. بذل جهوداً هائلة كي يعيدها إلى الحياة، وهو اليوم يتنفس مع أولى حبات هذا الموسم، الصعداء. 

موسم وفير

منذ نهاية تموز/ يوليو وبداية آب/ أغسطس، ومع شروق الشمس، تمتلئ حقول الفستق الحلبي يومياً بالمزارعين/ات والعاملين/ات الذين ينتشرون بين الأشجار لقطف «الحبات المباركة» وتهيئتها للبيع.

تتضمن هذه العملية مراحل لا بد من إتقانها: أولاً تُفصل الأغصان عن الأشجار وتُجمع على قطع قماشية كبيرة تحت كل شجرة مع ضرورة تمييز تلك الناضجة منها وانتظار التي لم تنضج بعد، وبواسطة شبك معدني كبير تفصل الحبات الكبيرة عن الصغيرة، فتُنقّى الأولى مرة أخرى من الأوراق والأتربة وتُفرز يدوياً وتعبأ في صناديق، ثم تنقل إلى سوق بلدة مورك، وهي السوق الأساسية للفستق الحلبي في المحافظة لتباع بشكلها الطازج أو تهيأ للتصدير. أما الحبات الصغيرة فتقشر بواسطة آلة مخصصة وتباع في شكل «قلوبات»، ويمكن أن يستفاد من القشور لتكون أسمدة زراعية، أو مواد للتدفئة خلال الشتاء.

تنتج البلدة كما جميع مناطق زراعة الفستق في سوريا، أنواعاً مختلفة من هذه الثمرة، يشرح إبراهيم: «العاشوري هو الأكثر شهرة والأفضل للتصدير لأنه يحافظ على شكل ولون قشرته لأيام بدون أن تذبل، ولدينا العاشوري الأبيض، وناب الجمل، وأبو ريحة أبيض (وله رائحة وطعم يشبهان الصنوبر)، وراس الخروف، والعليمي، والمراوحي، والمراوحي الخشن، وغيرها. لكل منها استخدام محدد، سواء للتصدير بشكلها الكامل، أو للبيع على البسطات المحلية، أو للتحميص أو للتقشير، ولبعضها خاصة تلك المرتفعة الثمن زبائن ووجهات محددة».

يميز المزارع من بعيد نوع ثمار كل شجرة، وبنظرة سريعة يعرف إن حان موعد قطافها أم أن عليه الانتظار بضعة أيام في حال وجود بعض النقط البيضاء فوقها، دلالة على عدم نضوجها بعد. يحثّ من يعملون معه، وهم زوجته وبناته وعائلات أخوته، على الإسراع بقطف الثمار وتجميعها قبل أن تشتد شمس آب اللاهبة. عند الثامنة صباحاً تنتهي العملية وتنقل الصناديق إلى السيارات نحو الأسواق.

يتحدث إبراهيم وغيره من المزارعين عن موسم وفير لهذا العام، من أسبابه كون شجرة الفستق «معاومة» فهي تنتج بشكل غزير مرة كل عامين وليس سنوياً، كما أن عودة جزء من السكان إلى منازلهم وأراضيهم أتاحت الفرصة للعناية بشكل أفضل بالأشجار بعد سنوات المعارك وما رافقها من خراب.

وفق صفحة «الإعلام الزراعي في سوريا» على موقع فايسبوك، تشير تقديرات إنتاج محصول الفستق الحلبي لهذا العام إلى 77 ألف طن، بزيادة نحو 32 ألف طن عن العام الماضي، منها نحو 33 ألف طن في المناطق الخاضعة لسيطرة دمشق، تأتي حماه في المركز الأول بينها بما يقارب نصف الإنتاج. وحسب أرقام مديرية زراعة حماه، فإن نحو 215 ألف دونم زُرعت في المحافظة بأكثر من ثلاثة ملايين شجرة فستق لهذا العام، الجزء الأكبر منها بعلي. 

عند العصر، أتجه نحو حقل آخر في بلدة مورك، لألتقي بمزارعين وعمال يستغلون انكسار حدّة الحر لقطف محاصيلهم. بينما أقترب منهم يصلني ذلك الصوت المحبب لتساقط حبات الفستق الناضجة على القطع القماشية الكبيرة تحت الأشجار، وأنحني لألتقط بعض الحبات الهاربة وأتذوق باكورة إنتاج هذا العام، كما يحثّني أحمد عوض القاسم، وهو من قدامى وكبار مزارعي البلدة الشهيرة بكونها صاحبة النصيب الأكبر من إنتاج سوريا من الفستق.

يأمل القاسم (75 عاماً) أن يُحسن المزارعون، والجهات الرسمية استغلال الموسم الوفير، وتسويق المحصول بشكل صحيح، «التسويق صناعة لا تقل أهمية عن الزراعة»، يقول بينما نتجول في أرضه التي يزيد عدد أشجارها عن ألف ومئتين. 

يرى القاسم، أبو حذيفة، ضرورة التركيز على «تحويش» جزء جيد من حبات الفستق عند بداية نضجها وعدم الانتظار حتى نهاية الشهر، وللأمر الذي يطلق عليه مصطلح «التقطيف المبكر أو الاقتصادي» سببان كما يشرح: «أولاً هذه الحبات التي تكون بيضاء من الخارج وشديدة الخضار من الداخل مرغوبة من بائعي المثلجات ‘البوظة’ بسبب لونها اللافت، وتالياً يمكننا تسويقها بأرباح كبيرة».

من جهة أخرى؛ يريحُ القطاف المبكر الأشجار - وخاصة الضعيفة - من الحمل، ويقويها للعام التالي كما يقول، في حين أن طمع بعض أصحاب الأراضي بالحصول على حبات أكبر وتالياً زيادة «لا تذكر» في الأرباح، يدفعهم لتأخير القطاف دون إدراك لما يمكن أن يسببه الأمر من «تعب للأشجار». يعتقد القاسم أن الوحدات الإرشادية مقصرة في توعية الفلاحين حول هذا الأمر، وحتى في التفكير بمنافسة الدول الأخرى من خلال التركيز على تحسين جودة المنتج عاماً بعد آخر. 

تحتل سوريا المرتبة الرابعة عالمياً في إنتاج الفستق بعد الولايات المتحدة وتركيا وإيران. وعموماً، يمكن للشجرة الناضجة أن تعطي سنوياً من 20 إلى 40 كيلوغراماً من الفستق، ويكون الإنتاج «أعظمياً» وفق تعبير المزارعين مرة كل ثلاث أو أربع أو خمس سنوات، تبعاً لعمر الشجرة، والأهم مدى الاعتناء بها. يُباع الكيلوغرام الواحد في الأسواق القريبة بنحو 55 إلى 70 ألف ليرة (3.5 إلى 5 دولارات وفق سعر الصرف في السوق الموازية)، ويختلف السعر بين يوم وآخر وحسب العرض والطلب.

عناية فائقة.. وصعوبات كثيرة

تنتمي شجرة الفستق الحلبي إلى فصيلة البطم، وتشير مراجع إلى أن «أصلها يعود إلى منطقة غرب آسيا وآسيا الصغرى من سوريا إلى القوقاز وأفغانستان»، وإلى أن «الفستق انتقل من سوريا إلى إيطاليا أوائل القرن الأول الميلادي ثم انتشر في بلدان البحر الأبيض المتوسط الأخرى».

لثمرة الفستق استخدامات عديدة على رأسها صناعة الحلويات الشرقية الفاخرة مثل المبرومة والبقلاوة والمعمول والهريسة وغيرها، كما تدخل في بعض أطباق الطعام الفاخر في المطبخ الحلبي على وجه الخصوص، مثل بعض صنوف الكبّة.

يُعد الفستق من الشجر المعمر، ويتحدث معظم الفلاحين عن أشجار «تزيد أعمارها عن أعمارهم»، وعن أخرى ذات جذوع عريضة للغاية، ووفق بعض المصادر، «هناك بعض أشجار الفستق التي يزيد عمرها عن 500 عام في بلدة عين التينة في القلمون بريف دمشق».

فيما يُشير مُضيفي، أحمد القاسم، إلى موجات زراعة الفستق الحلبي في ريف حماه منذ منتصف القرن الماضي، حين شجّعت الحكومات على الأمر وأعطت المزارعين قروضاً معفاة من الفائدة. وقتذاك كانت عائلته تملك عدداً محدوداً من أشجار الفستق الحلبي إلى جانب أشجار التين والزيتون، فعملت على زيادة أعدادها عقداً بعد آخر. فيما يأسف الجميع هنا لأن عدداً كبيراً من الأشجار المعمرة قُطع وحُرق خلال سنوات الحرب.

أفضل وقت لزراعة شجرة الفستق خلال أشهر الشتاء، وتحتاج ما لا يقل عن سبع سنوات كي تعطي ثماراً، ويمكن أن تطول المدة تبعاً لصنف الشجرة ودرجة العناية ونوع التربة ومعدل سقوط الأمطار. يمكن أن ينمو شجر الفستق بعلاً، لكن تحسين كمية ونوعية الإنتاج ممكنٌ عبر تدخّلات معينة، مثل الريات التكميلية، وإيلاء عناية خاصة من حيث التسميد الورقي والأرضي، ومكافحة الآفات بالمبيدات المناسبة، والتقليم والحراثة وإزالة الأعشاب. ونظراً لكون هذه الأشجار منفصلة الجنس (أشجار مذكرة، وأخرى مؤنثة)، لا بد من الاهتمام بوجود نسب كافية من الأشجار المذكّرة ضمن الأرض لضمان عمليات تلقيح مناسبة. 

على أنّ السّرّ الأهم يكمن في تلك المعرفة الفريدة التي ألمسها جلياً لدى مزارعي ريف حماه. أراهم يتجوّلون بين أشجارهم، يعاينون أوراقها ويلمسونها واحدة تلو الأخرى للتأكد من لونها وحجمها وخلوها من أي مرض، ويتفحصون التربة لمعرفة مدى عطشها، ويراقبون كل تفاصيل إنتاجهم بعناية فائقة. أقول لأبو طالب: «تعامل الأشجار كأنها أولادك»، فيبتسم ويجيب: «أمازح الجميع دوماً بالقول إنني رضعت صمغ الفستق الحلبي عندما كنت صغيراً»، ويضيف: «عندما أرى الثمر أنسى التعب، ورغم أننا نزرع بعض الأنواع المثمرة الأخرى، فالفستق هو الشجرة الأغلى لدينا».

لا تقتصر هذه العلاقة الفريدة على المزارعين فقط، بل تشمل أفراد عائلاتهم الذين خُلقوا وكبروا «مع الفستق»، وليس من الغريب أن نرى طلاباً وموظفين يستيقظون عند الفجر لقطف الفستق بكل متعة، قبل أن يتوجهوا نحو أشغالهم وجامعاتهم.

كل هذا الإصرار ترافقه دون شك، صعوبات جمّة.

«عندما عدتُ إلى أرضي بعد سنوات النزوح كانت ‘الحالة بتبكّي. مأساة’. وجدت أكثر من مئتي شجرة محروقة تماماً، والبقية تحتاج عناية هائلة، الأرض عطشى للمياه، والأعشاب في كل مكان. لم يكن لدي خيار، بعتُ أرضاً أخرى أملكها، وشرعت بزراعة شجر جديد والعناية بتلك التي يمكن أن تحمل ثماراً مرة أخرى، وبإعادة بناء منزلي المدمر. كنتُ مصمماً على العودة، وما قاسيناه من مرارة عندما ابتعدنا عن أراضينا أعطانا قوة إضافية، وها نحن في أرضنا التي نحب، وليس لنا عز أو كرامة إلا فيها»، يتحدث محمد إبراهيم مستفيضاً.

من الصعوبات ما ينطبق على معظم الزراعات في سوريا اليوم، مثل ارتفاع تكاليف الري بسبب عدم توافر المحروقات، والاعتماد على مياه الآبار التي لا يقل عمقها عن 150 متراً، وقد بدأ العديد من الفلاحين باللجوء للطاقة الشمسية لهذا الغرض رغم تكاليفها العالية، وهذا ما فعله إبراهيم بضمان الموسم الحالي بعد تأكده من كونه وفيراً. 

تغيرات مناخيّة.. وحشرات

علاوة على ما سبق، يختبر المزارعون تحديات غير معهودة. يشرح محمد إبراهيم أن ارتفاع درجات الحرارة بشكل غير مسبوق إلى جانب قلة ساعات البرودة شتاء، يمكن أن يخفض نسبة انعقاد الأزهار، ما يعني تالياً نسبة أكبر من الثمار الفارغة، علاوة على انتشار ظاهرة «التقميع» التي تؤدي لاحتراق جزئي للثمار قبل وصولها مرحلة النضج، كما أن ارتفاع نسب الرطوبة في غير أوقاتها يمكن أن يسبب مشكلات فطرية وتعفناً للثمار أو لسطوح الأوراق، وكل هذه تحديات جديدة يواجهها المزارعون مع التغيرات المناخية التي يشهدها العالم عموماً.

ثمة إجراءات ضرورية يتحدث عنها إبراهيم، مثل التقليم المستمر للأشجار كي لا تحمل أكثر من قدرتها حتى لو تطلب الأمر إزالة بعض الأغصان الصغيرة المثمرة، والتسميد ورش المبيدات بكميات كافية دون إفراط وبالأنواع الملائمة والأوقات المناسبة حسب مراحل التزهير والإثمار، مع ضرورة الانتباه لعدم السقاية المفرطة كي لا تنمو الحبات سريعاً وبالتالي تتفسخ القشرة بغير الشكل المرجو.

مشكلة أخرى تؤرق مزارعي المنطقة اليوم، هي الانتشار غير المسبوق لبعض الحشرات وعلى رأسها الكابنودس (حفّار ساق اللوزيات)، التي تؤدي خلال أيام قليلة إلى «احتراق» الشجرة واصفرارها ويباسها تماماً، بعد دخول الحشرة في منطقة التقاء الجذر بالساق وأكل اللحاء.

السبب الأساسي لظهور هذه الآفة كما يتحدث أحمد القاسم، هو الأراضي التي أُهملت سنوات متتالية، وبعدها إجراءات الاستثمار الجائرة. «بعد انتهاء الحرب وتهجير كثير من السكان لأسباب مختلفة، طُرحت أراضيهم للاستثمار في مزادات علنية، المؤسف استثمارها من قبل أشخاص لا يملكون أي خبرة، وتحولها بالتالي إلى بؤر لانتشار الحشرات فيها وفي الأراضي المجاورة، إلى جانب إهمال قسم كبير منها وامتلائها بالأعشاب وعدم العناية بأشجارها على الإطلاق». 

يلمس القاسم خطورة انتشار الكابنودس على كامل حقول الفستق الحلبي في المنطقة وليس فقط ضمن الأراضي المهملة، ونعاين معاً شجرة أصابتها ويبدو جلياً يباس أغصانها وثمارها بشكل تام، أو كما يقول المزارع «الشجرة ماتت بأرضها». يحاول المزارعون بكل جهودهم مكافحة هذه الحشرة، يشير إبراهيم إلى إجراءات ضرورية مثل استخدام مبيدات معينة خلال فترة نشاط الحشرة، ومحاولة القضاء على تجمعاتها بشكل ممنهج ومدروس، ويطرح القاسم إمكانية استخدام الطائرات لرش كامل المنطقة، إلى جانب ضرورة وضع حل نهائي لموضوع استثمار الأراضي بهذا الشكل الجائر.

تنتهي جولتي في الحقول الشاسعة مع غروب الشمس. بينما أودّع عائلة أبو طالب، تمدّ زوجته يديها بصحن أبيض صغير مملوء بحبات الفستق الشهية كي آخذه في رحلة العودة إلى حماه. أحمله معي وبجانبه ذكرى الروائح والأصوات والألوان التي ستبقى عالقة في بالي لأيام طويلة.