الصورة: (المرصد السوري لحقوق الإنسان)
في مطلع حزيران/يونيو الماضي بدأت تظهر حالات اختناق شديدة بين الأهالي في بلدة ترحين والقرى والمخيمات المجاورة في ريف حلب الشرقي، ووصلت بعض الحالات إلى الاختلاج، بعد استنشاق غازات سامة وروائح كريهة ناتجة من عمليات تكرير الفيول الخام في منطقة الحراقات البدائية.
وقد أوضح أحد العاملين في فيديو مصور، أنّ الروائح المنبعثة نتجت من تجربة طرق تكرير جديدة، استُخدمت فيها مادة الأسيد لتساعد على عزل المشتقات النفطية.
بات معروفاً أن قرية ترحين شرقي حلب تحوي أكبر محطة لتكرير الفيول الخام القادم من مناطق سيطرة الإدارة الذاتية شمال وشرق سوريا عبر معبر الحمران (معبر داخلي يفصل بين مناطق سيطرة «الجيش الوطني» و«قسد»). وتُعدّ أبرز مصادر المحروقات في مناطق شمال غربي سوريا، إلى جانب المحروقات المستوردة عبر تركيا (البنزين، المازوت، الغاز).
بداية ظهور الحراقات البدائية
عقب تحول الاحتجاجات الشعبية في سوريا إلى حراك مسلح منتصف عام 2012، وسيطرة قوى وفصائل معارضة على مناطق واسعة، برزت أزمة محروقات شديدة في هذه الأخيرة. إذ وجد السوريون صعوبة في تأمين المازوت والغاز والبنزين بسبب فقدانها من الأسواق جراء توقف وصولها من محطات التكرير الواقعة تحت سيطرة دمشق.
وصلت مادة الفيول الخام، في شتاء 2012/ 2013، إلى المناطق الخاضعة لسيطرة فصائل معارضة شمالي إدلب وحلب، من آبار النفط الواقعة في محافظة دير الزور شرقي سوريا. بدأ السوريون يستخدمون النفط الخام بديلاً من المازوت في تشغيل المدافئ والسيارات، ولكن خطورتها وصعوبة تشغيلها دفعا البعض إلى البحث عن طرق جديدة لتكرير الفيول الخام واستخراج المشتقات النفطية.
عقب الاحتراب الشهير بينه وبين «جبهة النصرة» نشطت هجمات تنظيم «داعش» المتطرف على المنطقة التي كانت واقعة تحت سيطرة الجش الحر. وسرعان ما سيطر «داعش» على مناطق عديدة شمال وشرق سوريا في العام 2014 بما فيها آبار النفط الرئيسية. ازداد الاهتمام بمسألة تكرير المحروقات مع تفاقم الحاجة إليها، وطمعاً بالأرباح العالية تبعاً لقانون العرض والطلب. وكانت هذه قد انتشرت قرب منابع النفط في الشرق السوري، ولا سيما دير الزور.
هكذا؛ انتشرت محطات تكرير المحروقات البدائية في مناطق متفرقة شمال وشرق حلب وصولاً إلى إدلب، وأخذت شكل «شركات ناشئة» توفر المشتقات النفطية كالمازوت والبنزين المكرر والكاز. بينما كان استخراج الغاز صعباً بسبب الخبرات المحدودة وخطورة استخراجه.
تالياً سيطر «داعش» على مناطق واسعة وصولاً إلى مناطق غربي الفرات في 2014، فأحكم السيطرة على جرابلس والباب ومنبج، ما أدى لاحقاً إلى توسع محطات الحراقات في المنطقتين. إذ استمرت الحراقات المتفرقة في العمل في مناطق التنظيم بالتوازي مع مناطق واقعة تحت سيطرة فصائل معارضة في اعزاز وإدلب، ثم توسعت سيطرة «داعش» إلى شمالي حلب وصولاً إلى محيط مارع واعزاز في آب/أغسطس 2015 وإلى الحراقات والكازيات، بما فيها محطة تكرير حديثة ونوعية كانت تابعة لـ«لواء التوحيد» في منطقة الراعي.
مع انحسار سيطرة المعارضة شمال حلب واقتصارها على اعزاز ومارع توقفت معظم محطات تكرير المحروقات نتيجةَ استهدافها المتكرر من الطيران والمدفعية، ليقتصر عمل الحراقات على مناطق «داعش» وأرياف إدلب الجنوبية.
أطلقت أنقرة وفصائل معارضة تعمل تحت جناحها لها معركة عسكرية لطرد عناصر «داعش» في أيلول/سبتمبر 2016، انتهت بالسيطرة على منطقة الباب في 2017. في المقابل كانت قوات سوريا الديمقراطية قد بسطت سيطرتها على مدينة منبج غرب الفرات بدعم من التحالف الدولي، ما أفضى إلى بدء تشكيل المعابر الداخلية بين مناطق السيطرة للنقل التجاري.
تترك الغازات المنبعثة من عمليات تكرير النفط البدائي، ولا سيما غاز الكبريت السام، آثاراً كارثية على البيئة، لأن الغاز قابل للذوبان في التربة وفي قطرات المياه بسبب كثافته في المناطق المنخفضة
بعد سنوات، ومع هدوء المعارك نسبيّاً، وتوازع السيطرة بين سلطات الأمر الواقع راحت «المعابر الداخلية» تأخذ بُعداً منظّماً، مع تبعيّتها لقوى مختلفة، كمعبر الحمران تحت إدارة «الجبهة الشامية» ومعبر الجطل تحت إدارة «فرقة الحمزة»، وكلا الفصيلين ينتمي إلى ما بات يُعرف لاحقاً بـ«الجيش الوطني السوري» المدعوم تركياً.
اقتصر توريد الفيول الخام إلى الشمال على معبر الحمران، من خلال أحد التجار المتنفذين المحميين من «الجبهة الشامية»، واسمه محمود خليفة، وأخذت تتنامى حينها الحراقات في منطقة ترحين باعتبارها بوابة وصول النفط الخام ومحطةً رئيسة تجمع العاملين في مجال تكرير النفط من مناطق سورية شتى.
استمرّ توريد النفط الخام من مناطق سيطرة «قسد» إلى منطقة ترحين حتى انشقاق «حركة أحرار الشام» - القاطع الشرقي (أحرار عولان) - عنها نتيجة خلافات مالية بدأت أواخر 2021، ووصلت إلى ذروة الانفكاك الكلي أواخر 2022، بعدما استعان «الأحرار» بـ«هيئة تحرير الشام» للوصول إلى المنطقة والسيطرة على سوق المحروقات.
بالنتيجة، سيطر على منطقة الحراقات كلٌّ من «أحرار الشام - القاطع الشرقي»، و«فرقة الحمزة» و«أحرار الشرقية». فيما تدير «شركة الأنوار للمشتقات النفطية» المتهمة بتبعيتها لـ «هيئة تحرير الشام»، شؤون توريد المحروقات وبيعها في المنطقة للتجار والموزعين. تفرض الفصائل المسيطرة رسوماً مالية على العاملين في الحراقات وتعرقل عملهم بالضرائب المستمرة.
وبات معتاداً بين وقت وآخر تفجر خلافات وصراعات حول السيطرة على المنطقة، وعلى الحراقات في حد ذاتها بين جهات وفصائل شتى، فيما يستعر في الوقت الحالي أحدث هذه الخلافات مع أنباء عن نية «هيئة تحرير الشام» تفكيك بعض الحراقات ونقلها إلى مناطق تسيطر عليها بشكل مباشر.
عمليات تكرير النفط الخام البدائية
يعبر النفط (فيول خام) معبر الحمران بالتنسيق مع محمود خليفة، الذي بات يحصل على حماية «فرقة السلطان مراد»، إلى حرش ملكيته عامة في قرية ترحين، التي بات عدد الحراقات فيها يناهز 1200 حراقة وفق تحقيق نشرته صحيفة عنب بلدي في أيار الماضي. يصل سعر طن الفيول الخام نحو 340 دولاراً أميركياً ومصدره بئر رويس، بينما يبلغ سعر طن الفيول الخام من بئر رميلان (نوعية أفضل) نحو 420 دولاراً أميركياً.
يتكوّن كل حراق من خزان معدني بسماكة تصل إلى خمسة ميليمترات وسعة تراوح بين ثلاثة وأربعة أطنان. توقد تحته النار بالمواد الخام وبقايا الحراق وإطارات السيارات. تتفرع عن الخزان من الأعلى أنابيب معدنية تتبخر عبرها المحروقات المستخرجة، وتمر في حوض مائي بهدف تكثيف المواد وتحويلها إلى أحد أنواع المشتقات النفطية.
يوضح أحمد النايف، أحد العاملين في الحراقات في منطقة ترحين، أن: «طن النفط الخام ينتج نحو 4 براميل من مادة المازوت، والباقي يسمى البقايا التي تستخرج منها مادة الإسفلت (الزفت)، بينما البقايا شبه الجافة يمكن استخدامها في إعادة إشعال النار تحت الحراق واستخدامها في التدفئة، فيراوح سعر طن بقايا التدفئة بين 150 و200 دولاراً أميركياً للطن الواحد».
ويشير إلى أن عملية تشغيل الحراق تحتاج إلى أيدٍ عاملة. يتقاضى المعلم عن كل طبخة (أربعة أطنان) 100 دولار، بينما يحصل كل من العمال المرافقين على 60 دولاراً أميركياً. وتحتاج الخزانات بعد كل طبخة إلى أربعة عمال تنظيف، الذين يحصلون على 25 دولاراً أميركياً.
تراوح الكلفة الإنتاجية لكل برميل من المازوت (رميلان) ما بين أجور ونقل بين 110 و120 دولاراً أميركياً، بينما تراوح كلفة إنتاج مازوت (رويس) بين 105 و110 دولاراً أميركياً من أرض الحراقات. ثم يبدأ السعر بالارتفاع من مرحلة البيع، إذ يتقاضى الفصيل الذي يشرف على عملية البيع دولارين ونصف دولار عن كل برميل. وتفرض حواجز أخرى ضرائب ليصل إلى المستهلك في شمال حلب بزيادة نحو 10 دولارات أميركية.
تتجه المحروقات عبر شركات تحتكرها «هيئة تحرير الشام» إلى محافظة إدلب، وتخصص بيعها في الكازيات فقط، بعدما منعت بيع المحروقات في المحال والمراكز التجارية الشعبية (المفرّق). أما في شمالي حلب، فيبدو المجال مفتوحاً أمام التجار في تجارة المحروقات الداخلية، فضلاً عن وجود عدد من الكازيات المنتشرة على الطرقات التي تتبع للمكاتب الاقتصادية في الفصائل العسكرية التابعة لـ «الجيش الوطني».
تهرّب كميات كبيرة من المحروقات عبر معابر التهريب الواصلة إلى مناطق سيطرة دمشق (حلب)، بالتنسيق المباشر بين قادة الكتائب في الفصائل وضباط في الجيش السوري. كما تُورّد المحروقات المنتجة إلى مناطق الشهباء التي تسيطر عليها الإدارة الذاتية شمالي حلب.

كوارث تفتك بالإنسان والبيئة
يشكل العمل في الحراقات مصدر رزق رئيس لمئات العائلات وسط ندرة فرص العمل وارتفاع الأجور في هذا المجال (بدءاً من 25 دولاراً أميركياً) قياساً بالأجور في الأعمال والمهن الأخرى (4 دولارات أميركية)، في حال توافرها. لذلك، يتجاهل العاملون في المهنة المخاطر الصحية التي يمكن أن يخلفها العمل في الحراقات، ولا سيما الآثار التي تظهر على العينين والجلد، والداخلية التي قد تتطور حدّ الاختناق والأمراض المسرطنة.
يقول عبد الكريم الحمد (30 عاماً)، الذي يعمل في المهنة منذ ثلاث سنوات رغم محاولاته للحصول على عمل آخر: «تعرضت لحالات اختناق متكررة كادت توصلني إلى الموت». ويضيف أن «التشخيص السريري أكد إصابتي بأمراض تنفسية والتهابات مزمنة يصعب الشفاء منها مع إمكانية تطور المرض، لا سمح الله».
ويوضح الحمد أن الروائح المنبعثة من عمليات التكرير تكاد تخنق العامل في المهنة وتوصله إلى مرحلة لا يمكن الشفاء منها، كما حاله، إذ يلازمه السعال والاختناق، ولكن اضطراره إلى العمل يدفعه إلى البقاء.
تُهرّب كميات كبيرة من المحروقات المكررة بدائياً إلى مناطق سيطرة دمشق، بالتنسيق بين قادة في الفصائل وضباط في الجيش . كما تُورّد إلى مناطق تسيطر عليها قسد
يشير طبيب في «المشفى التركي» بمدينة الباب شرق حلب، رفض الكشف عن اسمه، إلى أن «الإصابة بالأمراض التنفسية والجلدية والعينية لا تقتصر على العاملين في الحراقات، بل تشمل سكان المنطقة جميعهم، فالأبخرة والانبعاثات السامة الناتجة منها تملأ الأجواء».
ويؤكد أن «الغازات السامة (الكبريت) المنبعثة من عمليات تكرير النفط تعرّض الإنسان للإصابة بالأمراض المزمنة كالربو وضيق التنفس والسعال والتحسس الأنفي وسرطانات البلعوم والرئة والجلد، وتضرر العين الذي قد يوصل الذين على تماس مباشر إلى العمى، لأن الغاز يثير أنسجة العين المكشوفة والأنف والحلق والرئة، وعند امتصاص الجسم لكميات كبيرة منه، قد يفسد الجهاز العصبي ويشل نظام التنفس ما يؤدي إلى ذبحة قلبية ونوبات صرع واختلاج».
كما يلفت الطبيب إلى أن الحالات المرضية التي تراجع المشفى «معظمها ناتج من عمليات التكرير البدائي، فالأجواء ملوثة تماماً ولا يوجد لدى الأهالي حلول كتغيير مكان السكن أو نوع العمل، مع غياب كلي لدور السلطات المحلية لمراقبة آليات التكرير غير الصحية للإنسان والبيئة معاً».
تترك الغازات المنبعثة من عمليات تكرير النفط البدائي، ولا سيما غاز الكبريت السام، آثاراً كارثية على البيئة، لأن الغاز قابل للذوبان في التربة وفي قطرات المياه بسبب كثافته في المناطق المنخفضة، ما يتسبب في تلوث التربة والمياه السطحية والجوفية ومجاري الأنهار وتضرر النباتات والمحاصيل الزراعية والمواشي والأسماك.
تحولت قرية ترحين من قرية زراعية خصبة سابقاً، إلى شبه صحراء قاحلة اليوم، يهيمن على جوها الدخان والأبخرة الناتجة من عمليات تكرير النفط، ما أدى إلى موت الأشجار وتضرر المحاصيل الزراعية.
برغم ذلك، لا تلوح أي بوادر لتغيير الوضع، إذ تشكل الحراقات مورداً اقتصادياً هامّاً تستغله بعض الفصائل العسكرية التابعة لـ«الجيش الوطني» من جهة و«هيئة تحرير الشام» من جهة أخرى، فضلاً عن منفعة لجهات وأفراد في قوات سوريا الديمقراطية التي تسيطر على المورد الأساس، وتقابلها منافع مماثلة في مناطق سيطرة دمشق (الفرقة الرابعة) من خلال عمليات التهريب، في منظومة فساد عابرة للجغرافيا، لا تُعير اهتماماً إلى أي شيء سوى مصالحها الاقتصادية.