جورجي بحري
الصورة: (عمّان - وسط البلد/Evgeni Zotov - فليكر)
إنّها التاسعةُ ليلاً بتوقيت عمّان في يومٍ عاديّ يتوسّط أيام آخر أسابيع تشرين الثاني من العام 2023. تتذكّر نصائح الأصدقاء العارفين بمدينةٍ تزورها للمرّة الأولى في حياتك: «اذهب إلى شارع الرينبو ليلاً».
ينفثُ سائق سيّارة الـ«أوبر» دخان سيكارته بنزق حين ينتبه إلى أنّك دفعت الأجرة سلفاً بواسطة البطاقة المصرفيّة عبر التطبيق، يطفئ المحرّك ويزفرُ مرّة أخرى: «لا حول ولا قوّة إلا بالله».
يُخيل إليك أنه سيطلب منك النزول، ولعلّه كان يفكر في ذلك بالفعل، لكنّه سرعان ما يدير المحرّك بمجرّد أن تسأله: «ليش شو المشكلة»؟ ليردّ على سؤالك بسؤال: «سوري»؟ يطغى على محادثتكما شيءٌ من الدفء، أو تتخيّل ذلك، بينما يشرح لك أن «الكاش أريح» مُفصّلاً في تبيان أسبابه، وإيضاح الدورة التي ستستغرقُها أجرتك إلى أن تصل إليه بعد اقتطاع نسبة منها.
تصلان «الرّينبو». يسأل أين تريد النزول بالضبط، فتجيب بـ «ما بتفرق». حين يكتشف أنك تبحث عن بعض الصّخب يُهيّئك للنتيجة سلفاً: «الناس في بيوتها، نحن بنص الأسبوع، وما حدا معو ليرات».
تكرّرت في اليومين الأخيرين على مسمعك «ليرة، ليرات» مرات عديدة ولم تعُد تستغرب رغم أنّ العملة الرسميّة هنا هي الدينار منذ حلّ محلّ «الجنيه الفلسطيني» في العام 1950. لم يكن للّيرة مكانٌ أبداً في التاريخ النقدي للمملكة، ومع ذلك يستخدمها بعض العوام في كلامهم، ولا تجد من يشرح لك السبب، فتكفّ عن التساؤل وتركن إلى ما قد تُشيعه الكلمة من «الألفة» في نفسك.
في أحضان «الودّ الحذِر»
ربما كان «البحث عن دمشق في عمّان» هاجساً طبيعيّاً يُلازم سوريّاً يعيش منذ سنوات في أوروبا، وها هو على «بُعد خطوات» من بلاده، لكن تفصله عنها سنوات طويلة، ومخاوف، وحواجز، ودمٌ صار ماء رغم أنف الأمثال وحكمتها المفترضة.
لكن دمشق لم تكن هناك في تلك الليلة على الأقل. تُفكر واجماً بأسباب كل تلك الوحشة التي تترك بصمتها في كل شيء على امتداد «الرينبو»: العدد المحدود من المارّة، واجهات المطاعم والعدد الأقل داخل المحال بمختلف أنشطتها، السيارات المسرعة، وحتى هواء تشرين الثّقيل.
التحفّظ طابعٌ طاغٍ بشدّة على الأحاديث العابرة، سواء تعلّق الأمر بفلسطين، أم بسوريا، أم بأي أمر قد تُشتم منه رائحة السياسة
لا يبدو أن ثمة اختلافات كُبرى في «وسط البلد»، سوى أن الوحشة التي تمشّت معك بضع كيلومترات من «الرينبو» إلى هنا باتت أثقل، رغم اقتراب الطابع أكثر من «روح شعبيّة» عادةً ما تنجحُ في إشاعة شعور بالراحة في نفسك.
تلفتك البضائع التي نُسقّت في محال بلا واجهات زجاجية بطريقة تزاوج ما بين «البسطة» والمحل. تحاول تخيّل أنك تسير في «المرجة» أو «تحت جسر الثورة» في دمشق، فتفشل.
فلسطين حاضرة هنا أيضاً من خلال أعلام وأشكال طُبعت على ألبسة، وفناجين، وبعض الهدايا التذكارية الرخيصة. تفتش عنها في بعض الأحاديث التي تفتحها مع الباعة، فلا تُجدي المحاولة. التحفّظ طابعٌ طاغٍ بشدّة على الأحاديث العابرة، سواء تعلّق الأمر بفلسطين، أو بسوريا، أو بأي أمر قد تُشتم منه رائحة السياسة. يمكنك تلمّس الود والتعاطف بشكل عفوي، لكن من دون أن تسمع آراء، أو تلمس مواقف.
أجِب عمّا يلي..
يُشرف المشوار الليلي على نهايته، وأنت لم تعثر على أي إجابة للأسئلة التي تدور في رأسك منذ دخلت صالة الواصلين في «مطار الملكة علياء» في عمّان، وخاصة بعد أن أبرزت جواز سفرك السوري للموظف، وطلب منك بعد أن علم أنها زيارتك الأولى ملءَ مجموعة أوراق بإجابات عن أسئلة كثيرة، تمهيداً لعرضها على أحد المكاتب الأمنية في المطار قبل الموافقة على دخولك المملكة.
أسئلة ستُذكّرك إلى حد كبير باستمارات مماثلة طالما ملأتها في بلادك، حول الأعمام والأخوال والإخوة.. وإلخ. لكن أشد ما سيثير استغرابك أسئلة حول خدمتك العسكرية في سوريا.. متى بدأت ومتى انتهت، أين كانت بالتفصيل: أي فرقة وأي كتيبة، وما كان اختصاصك ورتبتك!
لكن أين تذهب كل هذه «الداتا»؟ عليك أن تكون أذكى من أن تطرح هذا السؤال حتى على نفسك!
تكف عن محاولات خوض الأحاديث مع الآخرين.. تقرر توثيق جولتك تلك ببعض الصور الحذرة، لعلك تعود إليها يوماً وترى فيها شيئاً سوى الوحشة.
تقودك الفكرة الأخيرة من جديد إلى دوامة الأسئلة: ما سر كل هذه الوحشة بالفعل؟ أهي الظروف الاقتصاديّة كما أخبرك السائق؟ أم أصداء الإبادة التي تُرتكب في فلسطين التي تذهب بعض التقديرات إلى أن نسبة الأردنيين الذين ترجع أصولهم إليها قد تصل 40 % من عدد الأردنيين؟ أو لعلّ الوحشة تنبع من داخل سوري يتجوّل في عمّان ويفكّر بغزّة فحسب؟ يومذاك كان عمر الإبادة أقلّ من شهرين، كيف ستكون الأحوال اليوم وسط عمّان؟ أما زال الوجوم سيد الموقف؟ أم أن الاعتيادَ فرض قوانينَه لتستمرّ «الحياة»؟
لديك تصويب أو ملاحظة؟ تفضل/ي بالتعرف إلى محررة القراء والتواصل معها
This work
by
SOT SY
is licensed under
CC BY-ND 4.0