× الرئيسية
ملفاتنا
المستشارة
النشرة البريدية
تَواصُل
من نحن
اختر محافظة لتصفح المقالات حلب
الرقة
الحسكة
دير الزور
اللاذقية
طرطوس
إدلب
حماة
حمص
دمشق
القنيطرة
درعا
السويداء
ريف دمشق

(دي جا فو): فلنُعِدْ إنتاج الحرب!

عقل بارد - على الطاولة 05-03-2025

اليوم، وبعد فرار الأسد وتلاشي سلطته، تجري محاولة إعادة إنتاج «الفيلم» المقيت نفسه، بالسيناريو نفسه، وبالشخوص نفسها، ولكن مع تبديلٍ طفيفٍ للطرابيش، بحيث يلعب كراكوز دور عيواظ، وعيواظ دور كراكوز!

الرّسم: (Amorim - كارتون موفمينت)

غمرتني سعادة شفيفة في شهر آب من العام 2020، حين وافق «صوت سوري» على نشر أول مقال لي فيه بعنوان: الثالث المقموع و«منطق الوحل»، وفي الشهر نفسه كتبت أيضاً: «الأقليات» و«الأكثريات» في سوريا: نحو فرزٍ جديد.

اليوم، وبعد ما يزيد عن أربع سنوات يُغلفني أملٌ مشوبٌ بالحزن؛ إذ أجد نفسي، وأجدنا نحن السوريين والسوريات، مهددين بالانزلاق إلى المصيبة نفسها التي كتبتُ وكتب غيري عنها طوال سنوات.

فلنعِدْ تركيب المشهد مستخدمينَ أكثر التعبيرات فجاجةً وبساطة: أيام الأسد أصرّ القسم السائد ضمن كل من النظام والمعارضة، ومعهما القسم السائد ضمن الإعلام العربي والأجنبي، على تقسيم المجتمع السوري عمودياً، وبشكلٍ جبري إلى حد بعيد، بين «نظامٍ عَلماني يحمي الأقليات الدينية والطائفية ضد الأكثرية العربيّة السّنية» و«معارضة تمثل الأكثرية العربيّة السّنية المضطهدة»، وكان هذا الشكل في تقسيم الناس أداةً أساسية لتغذية وإطالة حربٍ شعواء، لا ينهيها حوار ولا حل سياسي، ولا يعبر عنها إلا ما يسمونه في الفلسفة «التناقض التناحري» الذي لا يُحَل إلا بفناء أحد طرفيه، أو بفنائهما معاً. 

في الواقع، لم يكن النظام علمانياً ولا حامياً للأقليات، ولم تكن المعارضة تمثيلاً حقيقياً لمصالح «الأكثرية العربية السنية المضطهدة»؛ فليس في التاريخ ولا في المنطق أن تحمي أقلية بدفعها نحو مقتلة دامية، وأن تحمي أكثرية بجرّها نحو مجزرة فظيعة. وفي الواقع أيضاً أن المضطهدين المُفقرين المحرومين في سوريا هم أكثرية الأكثريات، وهم من أبناء كل القوميات والأديان والطوائف والأجناس في سوريا، وأن الأقلية الظالمة الناهبة المجرمة، هي الأخرى تضم في تكوينها أمراء الحرب والفساد من كل القوميات والأديان والطوائف والأجناس؛ أي أن التموضع الفعلي للأكثرية والأقلية في سوريا، من وجهة نظرٍ وظيفية، من وجهة نظر الحق والعدل مقابل الظلم والنهب، هو تموضع مغاير تماماً للتقسيمات على أساس القومية والدين والطائفة والعرق والجنس وإلخ.

اليوم، وبعد فرار الأسد وتلاشي سلطته، تجري محاولة إعادة إنتاج «الفيلم» المقيت نفسه، بالسيناريو نفسه، وبالشخوص نفسها، ولكن مع تبديلٍ طفيفٍ للطرابيش، بحيث يلعب كراكوز دور عيواظ، وعيواظ دور كراكوز!

بكلامٍ أوضح، يجري دفعنا من جديد نحو معادلة (نظام/معارضة)، (مؤيّد/معارض)، ولكن في هذه المرة النظام هو «حامي الأكثرية العربيّة السّنية»، والمعارضة هي الفئات «العلمانيّة» الممثلة «للأقليات الطائفية والدينية المضطهدة المهددة تهديداً وجودياً». 

التوافق على المهمات المُلحّة وعلى رأسها توحيد البلاد وإعادة إقلاع الاقتصاد، هو المخرج الوحيد من إعادة إنتاج الحرب، والمدخل الوحيد لإعادة إنتاج الوطن

لعلّ أكثر ما في الأمر إثارة للدهشة أنّ ثوب «المعارضة الجديدة» هو نفسه ثوب القديمة، بالرقع ذاتها، وخاصة منها: «طلب الحماية الدولية» وعلى الخصوص طلبها من الدول الغربية، مع ارتفاعٍ نسبيٍ لصوت «معارضة الخارج» مقارنة بـ«معارضة الداخل». وبالتوازي يظهر من الثوب المطلوب إلقاؤه على «النظام الجديد» أنه المدافع عن وحدة سوريا ضد المؤامرات الدولية لتقسيم سوريا، والمدافع عن «أكثرية» طائفية دينية، وحقها «الديمقراطي» في تحديد اتجاه سير البلاد! لتكون المحصلة أشبه بما يسميه الفرنسيون Déjà vu (دي جا فو- وهم سبق الرؤية)، وهو شعورٌ موهوم بأننا نعيش في اللحظة الراهنة مشهداً سبق أن رأيناه أو عشناه، ولكن في حالتنا الأمر ليس وهماً، بل رؤية متواصلة ضمن كابوسٍ واحد.

إعادة إنتاج الحرب، أم إعادة إنتاج الوطن؟

يستند قسمٌ ممن يقولون بصحة فرز المجتمع بين مؤيدٍ ومعارض إلى تبسيط مفهوم الديمقراطية تبسيطاً يجردها من جوهرها؛ التأييد والمعارضة، وفرز المجتمع بين «أكثرية سياسية» و«أقلية سياسية» يفترض وجود حياة سياسية حقيقية في البلاد، ويفترض انتخابات قال فيها الشعب رأيه مُقسِّماً نخبه السياسية بين أكثرية وأقلية، ويفترض أن الفرز لا يقوم على أسسٍ «ما قبل وطنية»، بل على أسسٍ وطنية، وعلى أساس الاختلاف حول البرامج السياسية والاقتصادية الاجتماعية والوطنية التي تقدمها الأطراف السياسية المختلفة.

إنْ سلّمنا بافتراض أن لدينا في سوريا حياة سياسية متعافية، وأن هناك تمثيلات سياسية واضحة على أساس مصالح واضحة، وأضفنا إلى الافتراض أننا نعيش في سويسرا مثلاً؛ فحتى في أكثر الدول ديمقراطية، وحين تعصف بالبلاد أزمات وطنية عميقة أقل كارثية من الأزمة التي عصفت وتعصف بنا، يعلمنا التقليد الديمقراطي أن الحل يكون بـ«حكومة وحدة وطنية» تضم كلاً من الأكثرية والأقلية، تضم كلاً من النظام والمعارضة؛ ما يعني أن الأزمات الوطنية الكبرى تتطلب إرجاء الخلافات والاختلافات السياسية والأيديولوجية مؤقتاً، وتركيز الجهود على إخراج البلاد موحدةً من أزمتها.

محقٌ من يقول إن هذه المسؤولية هي بالدرجة الأولى مسؤولية من يملك السلطة، وعليه هو أن يمد يده، وأن يتجه نحو المشاركة الواسعة ونحو عدم الاستئثار بالسلطة، للعبور بالبلاد نحو ضفة الأمان. ولكن محقٌ أيضاً من يقول إنّ تكريس نمطٍ من المعارضة يرى في نفسه ممثلاً لأقليات دينية وطائفية وقومية وثقافية، من شأنه أن يُسهل على السلطة عملية الاستئثار، عبر تقديم نفسها نقيضاً لتلك المعارضة، أي ممثلةً لأكثرية دينية وطائفية وقومية وثقافية، الأمر الذي يصب في إعادة قسم المجتمع السوري برمّته على أسس «ما قبل وطنية»، ومن شأنه أيضاً أن يجهز حطب اقتتال جديد، وأن يعيد إنتاج الحرب، لا أن يعيد إنتاج الوطن.

..فأين الأمل؟

قد يبدو المشهد الذي رسمته هنا سوداوياً ومتشائماً، ولكني في الحقيقة متفائلةٌ بشكلٍ كبير؛ فكما تقول حكمة أجدادنا: «الضربة التي لا تكسر الظهر، تقويه».

ما يعطيني شعوراً قوياً بالأمل، هو أنّ «تجاعيد القرون لا تُرتجل ارتجالاً»، وأن «حقائق الحياة لا تسمح لنفسها بأن تُنسى»، كما يقول فيكتور هوغو في ملحمته الأعظم «البؤساء»، بترجمتها الرائعة التي قدمها سامي الدروبي. التجاعيد التي خلفتها سنوات الحرب بآلامها الفظيعة على وجهنا السوري لن تسمح لنفسها بأن تُنسى؛ فالسوريون اختبروا بأفظع السبل ما يعنيه تقسيمهم على أسس قومية ودينية وطائفية، ويعرفون جيداً «منطق الوحل» الذي كتبت عنه في أول مقال لي في «صوت سوري»؛ يعرفون أن أبناء الـ90% المقهورين والمنهوبين والمنتمين إلى شتى القوميات والأديان والطوائف، يوحدهم الفقر والظلم، ويوحدهم حلمهم بوطنٍ موحد وعزيز لا يملكون - ولا يرتضون - بديلاً عنه، ولذلك كله أعتقد صادقةً بأنّ التوافق على المهمات المُلحّة بالنسبة لـ«أبناء الوحل»، وعلى رأسها توحيد البلاد وتأمين لقمة العيش عبر إعادة إقلاع الاقتصاد، هو المخرج الوحيد من إعادة إنتاج الحرب، وهو المدخل الوحيد إلى إعادة إنتاج الوطن.

الرسم: (عماد حجّاج - كارتون موفمينت)

  • تنويه: يتنافى تقسيم السوريين والسوريات إلى «أقليات» و«أكثرية» مع سياسات «صوت سوري» التحريرية، التي تقوم على قاعدة أن المواطَنة هي المعيار الذي ينبغي أن يتساوى بموجبه الجميع، وورود بعض التعبيرات من هذا القبيل في متن المقال أعلاه لا يعني تبنّيها من قبل الموقع، ولا من قبل الكاتبة بالتأكيد، بل يأتي - كما هو واضح - سعياً إلى توصيف الواقع الراهن في إطار تفكيك المشهد

لديك تصويب أو ملاحظة؟ تفضل/ي بالتعرف إلى محررة القراء والتواصل معها

This work by SOT SY is licensed under CC BY-ND 4.0