× الرئيسية
ملفاتنا
المستشارة
النشرة البريدية
تَواصُل
من نحن
اختر محافظة لتصفح المقالات حلب
الرقة
الحسكة
دير الزور
اللاذقية
طرطوس
إدلب
حماة
حمص
دمشق
القنيطرة
درعا
السويداء
ريف دمشق

مقدمات سياسية للعملية الدستورية: منطق الدولة / 1 من 2

عقل بارد - أوراقنا 29-06-2020

تتحكم «النّخب» عادة بالسرديات الوطنية، وبفضل القيمة الذي تنتجه السياسات المالية والنقدية للدولة، وتتحكم أيضاً بصنع القانون وأدوات تطبيقه. وهي بذلك تملك لا السلطة فحسب، بل وأدوات شرعنة تلك السلطة

الصورة: (Historical Railway Images - فليكر)

في العام 1919 أنهت البعثة الأميركية - المعروفة ببعثة كينغ كراين - تقريرها الخاص بسوريا، وقامت بتعداد العوائق التي تحول دون وجود دولة سورية موحدة. كان من بين تلك العوائق: التنافس بين البريطانيين والفرنسيين، وخوف السكان من الاستيطان الصهيوني، ورغبة المسيحيين في لبنان بالاستقلال وتخوفهم من سيطرة المسلمين على الحكم. 
كذلك؛ ورد في التقرير من بين الأسباب التي تعيق وحدة سوريا «نقص في الشعور الوطني السوري الجاد كما ينبغي».

يجدر بنا اليوم وضع هذه العبارة تحت المجهر، بعد قرن من صدور التقرير، لا لأن كلام بعثة أرسلها الرئيس الأميركي (وودرو ويلسون) للبت بين المطامع الاستعمارية البريطانية والفرنسية بنظرة استشراقية كولونيالية، يمكن أن يشكل ركيزة أخلاقيةً تنظر في تشكيل الدول، بل لأن عدم توافق المجتمعات التي انضوت تحت لواء الدولة السورية - وقتها وفي العقود اللاحقة - حول ماهية الدولة، كان أحد أبرز العوامل التي أوصلتنا اليوم إلى حالة حرب ضارية، قد يكون من بين عوامل الخروج منها وضع هذا التفصيل على طاولة البحث من جديد. 
لا يوجد مبرر عقلاني، أو أخلاقي، أو فلسفي، أو وجداني، واحد لنشوء الدول الوطنية. أغلبها نشأ نتيجة ظروف خاصة، بعضها داخلي، وبعضها خارجي عند تفكك الدول الإمبراطورية الكبرى. وبرغم أن نظريات العقد الاجتماعي كانت قد بدأت في الظهور تباعاً منذ القرن السابع عشر، فإن تلك النظريات بقيت في إطار فلسفي لم يستقرئ الأوضاع السياسية والاقتصادية للمجتمعات. 

كان التأسيس الفعلي للدولة الوطنية على أسسها الجغرافية المكانية وليد القرن التاسع عشر، وخاصة في أواخره، عندما بدأت الحكومات تقرّ بأن تحديد وتحرير الحدود الترابية بينها هو الضامن الوحيد لإيقاف الحروب المستقبلية. 
تدريجياً؛ تحول مفهوم السيادة من الملك إلى الشعب، وتحول معه مفهوم الشعب من مفهوم الرعية التي تتبع الملك، إلى مفهوم المواطنين الذين ينتمون إلى أرض محددة. 

لم تستقرّ الحدود الترابية للدول الأوروبية فعلياً إلا بعد حربين عالميتين، ومع إنشاء عصبة الأمم (الأمم المتحدة) وميثاقها. ولا يزال الخلاف على بعض الحدود، وعلى انتماء جماعات عرقية أو لغوية أو دينية أو مناطقية، مصدر تهديد لمشروعية تلك الحدود، إن لم يكن لشرعيتها الدولية. وما زالت المصالح الاقتصادية العابرة للحدود الترابية مصدر تهديد آخر لبنى الدول الوطنية، خاصة أن تأسيس تلك الدول كان في الغالب نتيجة تفاوضات غير متكافئة، حرمت بعض المجتمعات من حصص عادلة من الموارد الجغرافية العالمية، ومنحت للمصالح الخاصة ببعضها الآخر فرص التمدد إلى ما بعد حدود دولها الوطنية. 
يتم البت في غالبية هذه الخلافات عبر المنظومات القضائية والسياسية الوطنية والدولية، لكن جزءاً لا بأس به منها يصل إلى حد التسبب بأزمات وحروب. وتذكرنا تلك الحروب تحت أي مسميات كانت (حرب أهلية، حرب تحرير، ثورة، حقوق قومية، وحتى محاولة البعض تكريس مبدأ حق التدخل العسكري لحماية المدنيين إلخ) بأن الدول الوطنية ليست حتمية تاريخية فلسفية، ولكنها توافق مصالح رسخته الترتيبات العالمية، وتُشَكل البرجوازيات الوطنية لبنات بنائه المحلية.

باتت العقوبات الاقتصادية جزءاً من أدوات التدخل، ليس فقط لغرض تحقيق أهداف سياسية محدودة، بل لتحدي منطق الدولة ذاته، بمنطق معاكس لصناعة الدولة

تقوم الدول الوطنية على أسس معلنة أو مضمرة، قد تشملها في دساتيرها الوطنية، أو تفرضها وفق أعراف سياسية واجتماعية. أحد تلك الأسس هو تحويل فضل القيمة للفعل الاقتصادي لمجتمع بأكمله إلى موازنة عامة توفر - نظرياً - للمجتمع عوامل الرفاه، لكنها فعلياً تصبح نوعاً من الريع لنخب تعيد توزيعها بالطريقة التي تضمن لها استمرار نفوذها. تضطر هذه النخب إلى التفاوض بينها في إطار برلماني، أو تنيب عنها رأس السلطة التنفيذية ليوازن بين مصالحها. من هذا المنطلق فإن الحامل الأول للدولة هو القدرة على تنظيم مسار ملايين العمليات والفعاليات الاقتصادية العشوائية ضمن منظومة تضمن كتلة ثقيلة من التوازنات بين النخب وشبكاتها الزبائنية. فالإنفاق العام هو في نهاية المطاف جزء يسير من الإنفاق المجتمعي الأوسع، لكنه الجزء الأكثر وضوحاً وتمركزاً وأثراً على سياسات التنمية والاقتصاد السياسي للدولة. أما الذين يبقون خارج هذه التوازنات من محرومين ومهمشين أو خاسرين في لعبة التوازنات القلقة هذه، فعليهم أن يواجهوا سلطة الدولة المتمثلة بالقانون والشرطة (وفي بلدان منطقتنا الأجهزة الأمنية) لضمان رضوخهم لمنطق الدولة هذا. 
الحامل الثاني يتمثل في حماية هذا النظام الاقتصادي من ابتلاعه من قبل أنظمة أخرى للدول الوطنية المنافسة، أو المصالح العابرة للدول الوطنية التي بتنا نسميها «المصالح المعولمة». 
إن قدرة الدولة على حماية مواطنيها تتطلب جيوشاً رادعة، ودبلوماسية وسياسات خارجية قادرة على موازنة القوى والمصالح للدول الإقليمية والدولية، كي لا تستغرق كل موازناتها على الإنفاق العسكري. إن المعادلة بين الإنفاق على الدفاع، والإنفاق على رفاه الشعوب هي أحد أركان بناء الدولة الأساسية، وقد اختبرت معظم (وربما كل) الدول صعوبة تحقيقها. استطاعت الدول الاستعمارية أن تحقق هذا التوازن بالتمدد على حساب المجتمعات الأخرى. أما الدول التي نشأت في مرحلة ما بعد الكولونيالية، فلم يتوفر لها مجال التمدد العسكري بشكل واضح، بفعل ارتفاع كلفة العسكرة المتزايدة، وتكافؤ موازين الردع العسكري (على الأقل ضمن تحالفاتها الإقليمية والدولية)، وصارت حماية الاقتصادات الوطنية من التدخلات الاقتصادية للمصالح الخارجية جزءاً لا يتجزأ من منطق تأسيس الدولة الوطنية. 
في المقابل صارت العقوبات الاقتصادية جزءاً من أدوات التدخل، ليس فقط لغرض تحقيق أهداف سياسية محدودة، بل لتحدي منطق الدولة ذاته، بمنطق معاكس لصناعة الدولة.

بعد تسع سنوات من الحرب لا نجد توافقاً حقيقياً على ماهية الدولة السورية، فيما نجد الجميع يكررون أن «الحل في سوريا يجب أن يبدأ من ضمان وحدة الأراضي السورية»

من الطبيعي؛ أن لا تتوافق مصالح جميع أفراد المجتمع مع مصلحة النخبة الناظمة والمسيطرة على مؤسسات الدولة، ومن الطبيعي أيضاً أن تقوم بتحدي مصالح تلك النخب. غالباً ما تقوم النخب بالدفاع عن دورها بتحكيم «منطق الدولة» وتمثيل المنافسين على أنهم «مصلحة ضيقة»، بينما تمثل النخب عنصر التوازن لتحقيق المصلحة العامة للمجتمع. 
تتحكم «النّخب» عادة بالسرديات الوطنية، وبفضل القيمة الذي تنتجه السياسات المالية والنقدية للدولة، وتتحكم أيضاً بصنع القانون وأدوات تطبيقه. وهي بذلك تملك لا السلطة فحسب، بل وأدوات شرعنة تلك السلطة. قد تمتص تلك النخب الاحتجاجات ضد دورها عن طريق مؤسسات ديمقراطية، أو قد تقوم بقمعها مباشرة. 
حتى في منظومة الديمقراطية الليبرالية، فإن تداول السلطة (وهو أمر نادر الحدوث بشكل سلمي في بلادنا العربية) لا يلغي المصالح الأساسية للنخب، إذ تبقى تلك المصالح مكرسة في الدستور أو القانون، أو في ممارسات وشبكات توازن بينها، في ما يعرف أحياناً بالدولة العميقة.  
اليوم؛ وبعد سنوات تسع من الحرب في سوريا، لا نجد توافقاً حقيقياً على ماهية الدولة السورية، فيما نجد الجميع يعيدون ويكررون أن «الحل في سوريا يجب أن يبدأ من ضمان وحدة الأراضي السورية». 
 

يتبع


Share!

لا يتبنى «صوت سوري» أي توجه مسيس للملف السوري ولا تقف وراءه أي جهة سياسية.
نحن نراهن على دعمك لنا في الوصول إلى جميع السوريين والسوريات.

إذا رأيت أن خطابنا يستحق الوصول انشري / انشر هذا المقال من فضلك

لديك تصويب أو ملاحظة؟ تفضل/ي بالتعرف إلى محررة القراء والتواصل معها