× الرئيسية
ملفاتنا
المستشارة
النشرة البريدية
تَواصُل
من نحن
اختر محافظة لتصفح المقالات حلب
الرقة
الحسكة
دير الزور
اللاذقية
طرطوس
إدلب
حماة
حمص
دمشق
القنيطرة
درعا
السويداء
ريف دمشق

العظام لا تكذب: الأنثروبولوجيا الشرعية سلاح في معركة العدالة السورية

عقل بارد - على الطاولة 28-10-2025

في مواجهة المأساة السورية وتزايد اكتشاف المقابر الجماعية، لم يعد رفات الضحايا مجرد أرقام، بل تحول إلى أهم دليل مادي وغير قابل للتزييف على العنف الممنهج. تكمن الأهمية المحورية في دور الأنثروبولوجيا الشرعية التي تتجاوز تحديد الهوية الفردية لتركز على إعادة بناء القصة الجماعية، إذ تشكل كسور العظام وسجلها البيولوجي دليلاً جنائياً يدعم الروايات الشفوية. إن توثيق هذه الأدلة وفق معايير دولية هو استثمار في المحاسبة المستقبلية وبناء قاعدة بيانات وطنية

علي حسن سوسو: طالب دكتوراه في برنامج الأنثروبولوجيا البيولوجية، جامعة Hacettepe في أنقرة، تركيا

في خضم المأساة السورية المستمرة منذ نحو أربعة عشر عاماً وما خلّفته من تبعات، لا تزال المقابر الجماعية تُكتشف تباعاً، حاملةً رفات الضحايا كشهادات صامتة على نمط العنف الممنهج.

يُقدَّر عدد المفقودين بأكثر من 113,218 شخصاً، بينهم آلاف النساء والأطفال، وفق «الشبكة السورية لحقوق الإنسان». بينما تشير تقديرات الأمم المتحدة إلى ما يزيد عن 130,000 مفقود، ما يرجّح اكتشاف المزيد من المقابر الجماعية. 

في هذا السياق، لم تعد الحقيقة مسألة رأي أو رواية متناقلة؛ ففي ظل توافر آلاف الشهادات الفردية والمؤسساتية عن التعذيب والإخفاء القسري والقتل الجماعي، يبرز رفات الضحايا، إلى جانب الأدلة المرئية والشفهية، بوصفه أحد أهم الأدلة المادية غير القابلة للتزييف. وهذا يلقي المسؤولية على عاتق الأطباء الشرعيين والمختصين بالأنثروبولوجيا الشرعية للاضطلاع بدور محوري في كشف الحقائق وفق رؤية شاملة، عبر دراسة المقابر الجماعية لا بوصفها مجرد مسرح جريمة، بل تعبيراً عن عنفٍ ممنهج يفضح آليات القتل الرسمية.

هذا العمل يمكن أن يسهم في تحقيق العدالة الانتقالية، ويتيح الإصغاء إلى ضحايا المجازر (الصامتين) من خلال توثيق الشهادات التي «تدلي» بها رفاتهم. ومن ثم وضع هذه الشهادات في سياق اجتماعي وسياسي، وبذلك تُبنى سردية جماعية موثقة حول المجزرة الكبرى، تكون جزءاً من ذاكرة وطنية جامعة.

الطب الشرعي والأنثروبولوجيا الشرعية

يمكن أن يحدث التباس في التمييز بين مهمات الطبيب الشرعي ومهمات الأنثروبولوجي الشرعي، نظراً لتقاطع تخصصيهما في معظم البروتوكولات المتبعة. يضطلع الطبيب الشرعي بتحليل العظام والأنسجة لتحديد سبب الوفاة والأداة المستخدمة، فيما يركّز الأنثروبولوجي الشرعي على دراسة العظام البشرية لتقدير العمر والجنس والبنية الجسدية، ورصد المؤشرات المرتبطة بالإصابات والظروف السابقة للوفاة.

يكمن الفارق الجوهري في أن الطب الشرعي يسعى أساساً إلى تحديد الهوية الفردية للضحية وإعادة تصور الملابسات التي أحاطت بالجريمة، بينما يركّز الأنثروبولوجي الشرعي على إعادة بناء القصة الجماعية للضحايا، وإثبات الممارسات والانتهاكات عبر الأدلة البيولوجية، ومقارنة آثار الأذى الجسدي بالسرديات الشفوية أو المدوَّنة، فضلاً عن تقديم تحليلات تسهم في فهم أعمق للعنف البنيوي.

العظام سجل بيولوجي للعنف

تكتسب الجثث أهمية متزايدة في العديد من المجالات العلمية، ليس فقط لقيمتها الرمزية لذوي المتوفى، بل أيضاً بوصفها مجالاً تتقاطع فيه مصالح اجتماعية وسياسية وأيديولوجية متنافسة. فطريقة الدفن وأسلوب الموت والظروف التي سبقته تكشف كثيراً من تلك الاعتبارات.

عند العثور على مقبرة جماعية، تتحول العظام إلى «سجل أرشيفي» غالباً ما يكون هو الشاهد الوحيد على ظروف ممارسة العنف ضد مجموعة من الأفراد في حيز مكاني واحد. ومن خلال تحليل الكسور، وآثار الحروق، والعلامات الناتجة عن تقييد الأيدي، يمكن استنتاج أنماط الممارسات التي تعرّض لها الضحايا. قد تشير كسور في الترقوة أو الأضلاع إلى ضرب مبرح، بينما تدل كسور الساعد على محاولات دفاع عن النفس، وتكشف الكسور المتكررة في الرسغ أو الكاحل عن تقييد مستمر لفترات طويلة.

كما يتيح التحليل الكيميائي للعظام معرفة النظام الغذائي لبعض المعتقلين الذين قضوا فترات طويلة قبل تصفيتهم. بعد جمع هذه المعلومات ضمن ملف خاص بكل مقبرة جماعية، يمكن طرح أسئلة حول أوجه التشابه والاختلاف في ظروف الاعتقال والقتل. إنها شهادة علمية تفضح العنف الممنهج وتجاوزات السلطة.

المطابقة بين ما كُشف وما قيل

على مدى سنوات طويلة، شكّلت مئات التقارير والتحقيقات والشهادات والاعترافات المتراكمة سجلّاً حافلاً بأنماط العنف التي مورست وطرائق القتل والتعذيب بحق آلاف الضحايا. وتكمن أهمية العمل الأنثروبولوجي الشرعي في إمكانية مقارنته مع ذلك السجل وتأكيده ومنحه مصداقية قانونية، إذ يشكّل أداة لفحص الاتساق بين الرواية الفردية والأنماط الممنهجة للعنف، بما يعزّز فرص المحاسبة المستقبلية.

عظام الضحايا لا تخون الحقيقة، لكنها تحتاج من يحسن الإصغاء إليها. ولا ينبغي أن يكون الضحايا مجرّد أرقام في تقارير، فرفاتهم يحمل أدلة على ممارسات لا يجوز أن تُترك للنسيان

حين تصف شهادة أحد المعتقلين نمط تعذيب محدّد، ثم يؤكّد تحليل العظام ذلك بيولوجيّاً، هذا لا يمنح الرواية مصداقية فحسب، بل يشكّل أيضاً دليلاً جنائيّاً قابلاً للاستخدام في المحاكم مستقبلاً، خاصة إذا جُمعت الأدلة العظمية وفق معايير سلسلة الحيازة  (shain of custody). وهذا يعدّ استثماراً في مساءلة مرتكبي الجرائم أمام محاكم وطنية أو دولية، مهما طال الزمن.

علاوة على ذلك، إن دراسة سياقات الدفن، ورصد أساليب التعذيب التي يمكن ملاحظتها على العظام، وتحليل جودة غذاء الضحايا الذين احتُجزوا لفترات طويلة قبل تصفيتهم - بما يمكّن من كشف نظامهم الغذائي عبر التحليلات الكيميائية، وصولاً إلى تحديد بعض الأمراض الناجمة عن الإهمال - تشكّل جميعها عناصر رئيسة في إعادة بناء السردية بصورة أكثر إلماماً بظروف الضحايا والجناة. ويساعد ذلك على الكشف عن أنماط العنف الرسمية التي تتبنّاها أجهزة السلطة الأمنية والعسكرية.

نحو تحقيق العدالة عبر الأدلة العظمية

في ظل غياب آليات محلية مستقلة، بات من الضروري دعم إنشاء فرق وطنية متخصّصة ومدرَّبة في الطب الشرعي والأنثروبولوجيا الشرعية. وتبرز هنا مشكلة النقص الحاد في عدد المختصين السوريين في هذه المجالات، ما يستدعي الاستفادة من الكفاءات السورية المتوفرة في الخارج، والاستعانة بخبراء دوليين لتدريب كوادر سورية محلية خالصة تضم طلاباً من الأقسام الطبية المختلفة وحتى من علم الآثار، وهو ما من شأنه أن يسهم في تطوير هذه الأقسام موازاةً مع المهمة الأساسية.

ينبغي لهذه الفرق أن تتمتع بالاستقلالية التامة عن أي طرف سياسي، إذ أظهرت التجارب السابقة أن الفرق الحقوقية غالباً ما كانت عرضة لحملات تشكيك بسبب الاختراق السياسي. ومن هنا تبرز أهمية التعاون مع مؤسسات دولية مثل اللجنة الدولية لشؤون المفقودين (ICMP) واللجنة الدولية للصليب الأحمر (ICRC).

من أبرز المخرجات المرجوّة لهذا العمل، بناء قاعدة بيانات وطنية للضحايا والمفقودين، تشمل الخصائص العظمية والتحاليل الكيميائية والجينية، إلى جانب بيانات ما قبل الوفاة التي يمكن أن يسهم الأهالي في توفيرها بالتعاون مع الفرق الميدانية، مثل سجلات الأسنان، وصور الأشعة القديمة، أو حتى أوصاف الملابس التي كان يرتديها المفقود. وتشكّل هذه البيانات قاعدة مرجعية للأبحاث المستقبلية المعنية بالضحايا.

تبعث بعض التجارب الدولية على الأمل، إذ تكلّلت مساعٍ مشابهة بالنجاح في دول عانت من الحروب الداخلية، مثل البوسنة والهرسك، والأرجنتين، ورواندا. كما تسارعت الخطوات في السياق السوري مع تشكيل «الهيئة الوطنية للمفقودين» في أيار/مايو 2025، وهي هيئة معنية بجمع الوثائق وبناء قاعدة بيانات شاملة، استجابة لتوصيات الأمم المتحدة.

غير أن هذه العملية لا تخلو من العقبات، فتحليل كل مقبرة قد يستغرق أشهراً ويتطلّب تمويلاً كبيراً. كما أن الحالة الأمنية غير المستقرة قد تعيق الوصول إلى العديد من المواقع المشتبه بها، ما يستدعي تعاوناً مباشراً من الجهات المسؤولة. فضلاً عن ذلك، يواجه العمل خطر تخريب المواقع أو العبث بها عند اكتشافها، وهو ما أكّدت عليه اللجنة الدولية للصليب الأحمر في دعوتها إلى حماية السجلات، خصوصاً أن هذه المواقع تمثّل في أحيان كثيرة هدفاً للسبق الصحفي لدى فرق إعلامية لا تحسن التعامل مع الأدلة والشواهد في مثل هذه الظروف.

مُدخل للسلم الأهلي

إن توثيق الحقيقة عبر العظام لا يقتصر على كونه أداة قانونية للمحاسبة، بل يشكّل أيضاً مدخلاً أساسيّاً لبناء السلم الأهلي. فعندما تُوثَّق معاناة الضحايا وذويهم بصورة علمية لا تقبل التشكيك، يصبح من الصعب إنكار الجرائم أو إعادة إنتاج روايات متناقضة تُعمّق الانقسام المجتمعي. بهذا المعنى، تُسهم الأدلة العظمية في حماية الذاكرة الجماعية من التلاعب، وتوفّر أرضية مشتركة يمكن للسوريين جميعاً أن يقفوا عليها، مهما اختلفت مواقعهم وانتماءاتهم، لمواجهة الماضي بصدق والتطلع إلى مستقبل أكثر استقراراً.

كما أن إدماج نتائج العمل الشرعي والأنثروبولوجي في مسارات العدالة الانتقالية يعزّز فرص المصالحة، إذ يتيح للضحايا وأسرهم الشعور بأن أصوات أحبائهم لم تذهب سدى، وأن قصصهم موثّقة وراسخة في الذاكرة الوطنية. إن هذه العملية لا تحمي من تكرار المظالم فحسب، بل تخلق مناخاً نفسيّاً واجتماعيّاً أكثر استعداداً لتجاوز الألم الجماعي، وهو شرط أساسي لتحقيق سلم أهلي مستدام يقوم على الحقيقة والاعتراف، لا على النسيان أو الإقصاء.

عظام الضحايا لا تخون الحقيقة، لكنها تحتاج إلى من يحسن الإصغاء إليها. ولا ينبغي أن يكون الضحايا مجرّد أرقام في تقارير، فرفاتهم يحمل أدلة على ممارسات لا يجوز أن تُترك للنسيان. 

دور الأطباء الشرعيين والأنثروبولوجيين الشرعيين هنا ليس علميّاً فحسب، بل هو أيضاً أخلاقي وإنسانيّ بامتياز، فهم قد يتحدثون نيابة عن الضحايا الصامتين من أجل بناء مستقبل لا تُمحى فيه آثار الجرائم، بل تُوثَّق وتُضمَّن في ذاكرة العدالة، لتصبح جزءاً من مسار المحاسبة لا من محوها. 

هل نتوقع التفاتاً جديّاً إلى هذا الملف؟ هذا أضعف الإيمان، وعلى الفرق المحلية والدولية من الباحثين الشرعيين والقانونيين أن تباشر العمل على هذه المسألة على وجه السرعة.

يُنشر هذا المقال في إطار تعاونٍ بين «صوت سوري» و«شبكة الصحفيات السوريات» يتمحور حول العدالة الانتقالية في سوريا

العدالة_الانتقالية_في_سوريا السلم_الأهلي_في_سوريا

لديك تصويب أو ملاحظة؟ تفضل/ي بالتعرف إلى محررة القراء والتواصل معها

مقالات رائجة

This work by SOT SY is licensed under CC BY-ND 4.0