× الرئيسية
ملفاتنا
المستشارة
النشرة البريدية
تَواصُل
من نحن
اختر محافظة لتصفح المقالات حلب
الرقة
الحسكة
دير الزور
اللاذقية
طرطوس
إدلب
حماة
حمص
دمشق
القنيطرة
درعا
السويداء
ريف دمشق

عدالة مؤجلة.. كيف يواجه ريف إدلب انقسامات ما بعد الحرب؟

حكاياتنا - خبز 28-10-2025

العدالة الانتقالية في سوريا، بشكل عام، ليست مجرد قضية قانونية أو سياسية، بل هي مشروع حياتي يومي يحتاج إلى مشاركة المجتمع بأكمله، وإرادة صادقة لتجاوز الانقسام وبناء السلم الأهلي. تشهد مناطق عديدة في إدلب بوادر إيجابية، متدرّجة، تشي بأن المصالحة والاستقرار والسلم في سوريا ليست أهدافاً بعيدة، بل عملية تدريجية تبدأ بالاعتراف بالماضي وإعادة الروابط بين الناس

عمر علي الحسين: صحافي سوري

يجلس نصر الله أبو نعيم (36 عاماً) قرب بحيرة صغيرة بجوار منزله المدمر، يصطاد الأسماك محاولاً أن ينسى كل شيء ويبحث عن طريقة ليبدأ من جديد وسط الخراب المحيط به. في كل مرة يرفع رأسه نحو القرى المحاذية، يرى البيوت السليمة والناس يعيشون حياتهم بشكل طبيعي. يشعر بالظلم والحسرة، إذ تحولت قريته إلى ركام، بينما القرى المجاورة بدت وكأنها من عالم آخر لم تمسّه الحرب. «أغلبها قرى علوية ومسيحية»، يقول. 

نصر الله أبو نعيم، من قلعة المضيق في سهل الغاب، عاش رحلة نزوح قاسية هرباً من ويلات الحرب التي اجتاحت قريته. وبعد خمسة أعوام من الغياب، عاد ليجد منزله أثراً بعد عين، شاهداً على الصراعات التي فرّ منها، وحاملاً تحدي إعادة بناء حياة مزقتها سنوات النزاع.

بعد عقود من النزاعات والصراعات الداخلية، تواجه سوريا تحدياً كبيراً في إعادة بناء نسيجها الاجتماعي. ولتمهيد الطريق نحو العيش السلمي، وتصحيح الانتهاكات السابقة، وضمان حقوق المتضررين، تصبح العدالة الانتقالية ضرورة لا خياراً. لكن كيف يمكن ترميم العلاقات بين الناس، بعدما أصبح الجار خصماً، والشريك في الأرض أو التجارة غريباً، في القرى المتجاورة التي أنهكتها سنوات الحرب والنزوح الطويلة؟

ليست شعاراً

العدالة الانتقالية، المفهوم الذي يردده الحقوقيون والمنظمات المدنية، تبدو في ريف إدلب طريقاً محفوفة بالعقبات. الأمر هنا لا يخضع لمجرد قوانين أو نصوص دستورية، بل هو مجموعةُ تراكماتٍ من الرغبة في الثأر، وذاكرةُ نزوحٍ واعتقالٍ وخساراتٍ شخصية.

قبل الحرب، كان ريف إدلب يعيش حالة من التعايش النسبي بين مختلف مكوناته الاجتماعية، ولا سيما قرى سهل الغاب. كانت القرى المختلطة نموذجاً للتواصل اليومي، إذ يتقاسم الجار السني والعلوي الأسواق والمزارع والمدارس. لكن مع اندلاع الثورة ومن ثم الحرب، بدأت خطوط الانقسام تتضح مع موجات النزوح الجماعي، وخسارة الأرواح والممتلكات. لهذا باتت العدالة الانتقالية أكثر تعقيداً، إذ لم تعد القضية محاسبة المسؤولين عن الانتهاكات فحسب، بل إعادة بناء الثقة بين أفراد المجتمع أيضاً.

تحمل العدالة الانتقالية، في السياق المحلي، أبعاداً متعددة. فسهل الغاب ظلَّ شاهداً على عقودٍ من الجيرة، وسنواتٍ من النزاع. على أطراف السهل شريطٌ من الأراضي الخصبة، لطالما عُرف بوفرة القمح والخضار وتشابك قنوات الري. هنا تقع قرية «الحواش» ذات الغالبية السنية، وجارتها «الجيد» ذات الغالبية العلوية. ما جمع بين القريتين، لعقودٍ طويلة، أكثر مما فرّق بينهما. سوقٌ مشتركة، تبادلٌ في المحاصيل، وأفراحٌ تعبر من بيتٍ إلى آخر بلا حواجز.

قلبتِ الحربُ هذه الصورة رأساً على عقب. فمع بداية المواجهات في إدلب وريفها، تحولت الحقول إلى خطوط تماس، وتوقفت الأسواق، وأصبح المرور بين القريتين محفوفاً بالخطر. النزوح والاعتقالات وحوادث الخطف تركت جروحاً عميقة في ذاكرة الناس.

جيران الأمس

عاد أبو يوسف (55 عاماً) إلى أرضه، في الحواش، بعد غيابٍ دام سبع سنوات. كانت القرية قد تغيّرت بشكلٍ لا يُصدق؛ البيوت مُهدمة، والأراضي الزراعية مزروعة من دون إذن أصحابها الأصليين. عند دخوله إلى بيته المهدوم شعر بثقل السنوات على قلبه. يقول بصوتٍ مخنوق: «رجعت وبيتي مهدوم، وأرضي مزروعة من غير إذني، ما عندي مشكلة أبدأ من الصفر، بس كيف بدي أنسى إنو ابن خالتي صار خصمي؟ كنت أعرف كل شبرٍ من أرضي، والآن أشوفها بإيد ناس بيربطني فيهم دم. صعب تتصوّر قديش الألم أكبر لما يكون الخصم قريب منك، ابن عيلتك نفسه».

ليس أبو يوسف فقط، فالكثير من أهالي الحواش وسهل الغاب يواجهون صعوباتٍ مماثلة، إذ صار النزاع على الأرض والحقوق الشخصية جزءاً من حياتهم اليومية، حتى بعد عودتهم إلى منازلهم.

رغم ذلك، يحاول أبو يوسف أن يجد طريقاً للاستمرار قائلاً: «مشوار العودة صعب، بس لازم أعرف أبدأ من جديد. يمكن أنسى اللي صار، بس ما بقدر أنسى مين كان جنبي ومين كان ضدي».

«بقدر أتعايش مع أي حدا ما في برقبته دم، المهم تخلص الحرب والتارات ونرجع نعيش في بلادنا بخير، ونكمل باقي عمرنا بدون دم وخوف» - خالد (14 عاماً)

في الناحية الأخرى، يقف نمر أبو ديوب (49 عاماً)، من قرية الجيد، أمام الأراضي التي استولى عليها من قرية الحواش المحاذية، بوجهٍ يعبّر عن التعب والندم. يقول: «ما كنت فكر بهالطريقة وقتها. الحرب خلتنا نتصرف من غير عقل، كنت خايف على حالي وعيلتي، وشفت هاي الأرض فرصة، بس هلق بعد ما شفت الخراب يلي صار، وبعد ما رجعوا الجيران، عرفت إنو الغلط كان كبير. ولو يرجع الوقت، كنت حاولت ألاقي حل تاني غير اللي عملته، حتى لو كان أصعب. القلب بيتوجع لما تشوف الناس اللي ضيعت عليهم حياتهم بسبب خوفك وطمعك».

بعد سنوات من الحرب، وفي ظل هذه الظروف، تصبح العدالة الانتقالية وبناء السلم الأهلي تحدياً كبيراً يحتاج إلى خطوات عملية لإعادة توطيد العلاقات، وإعادة الحقوق لأصحابها بطريقة عادلة، بعيداً عن الانتقام والانقسامات القديمة.

مبادرات محلية تسعى لتقريب وجهات النظر

في ظل غياب قضاء مستقل أو آلية وطنية للعدالة الانتقالية، تعتمد المجتمعات المحلية على جهودها الذاتية لحل النزاعات. إنها عدالة مجتمعية غير رسمية، لكنها ربما الأكثر واقعية في ظروف كهذه.

في جبل السماق، حيث يسكن دروز إدلب، لم تقتصر آثار الحرب على البنية التحتية والعلاقات المجتمعية فحسب، بل شملت أيضاً مصادرة منازل وبساتين الزيتون لكل من كان يسكن في مناطق النظام السابق ويعمل مع جيشه. أضاف هذا الإجراء طبقة جديدة من التوتر بين الأهالي، لكنه في الوقت نفسه دفع بعض المبادرات المحلية إلى التركيز على إعادة بناء الثقة والتعاون بين المجتمعات عبر المشاريع المشتركة والورش التعليمية، ما منح مساحة صغيرة للتقارب رغم الانقسامات العميقة.

اجتمع مشايخ من الطائفتين الدرزية والسنية لمناقشة نزاع على بساتين الزيتون. كان النقاش صعباً ومشحوناً بالتوتر، لكن في نهايته تمكنوا من التوصل إلى صلح جزئي يسمح بتقاسم الإنتاج مؤقتاً، حتى عودة أصحاب البساتين إلى قراهم.

تأثير العدالة الانتقالية والسلم الأهلي على حياة الأطفال

العدالة الانتقالية والسلم الأهلي عنصران أساسيان لمعالجة معاناة الأطفال السوريين ومنحهم حياة أكثر أماناً واستقراراً. تأثرت حياة الأطفال في سوريا بشكل عميق جراء النزاع المستمر، وعانوا القتلَ والتعذيب والاختطاف وفقدان منازلهم وقراهم. 

لا تقتصر العدالة الانتقالية، هنا، على تطبيق الإجراءات القانونية فقط، بل تمنح الأطفال فرصة للاعتراف بمعاناتهم، وتقديم الدعم النفسي والمادي لهم، ومحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات.

أطفالٌ عاشوا الحرب وضاعت طفولتهم بين نزوح وخوف وحرمان. يركضون حاملين كرةً من شرائط قماش، ضحكاتهم من القلب، لكن عيونهم تحمل هماً كبيراً.

تقول سوسن (12 عاماً): «كنت دائما خاف أنام عشان ما إصحى على صوت القذائف والطائرات، وحتى في مدرسة المخيم كنت أعاني نفس الشعور. هلق رجعنا إلى ضيعتنا، وبطل في حرب، بس ما عاد في مدرسة، وصرت حس أن مستقبلي واقف، وكمان ما رح اقدر اعقد بالصف وع نفس المقعد مع بنت كانت تدرس في مدارس النظام ورجعت إلى الضيعة بعد التحرير».

من أبرز التحديات التي تجعل العدالة الانتقالية فكرة مؤجلة، غياب الثقة بالمؤسسات المحلية والمنظمات المدنية، والخوف من الانتقام، خاصة بين العائلات التي فقدت أحد أفرادها خلال النزاع

أما خالد المنصور (14 عاماً)، فله رأي مختلف ويشرح سبب ذلك قائلاً: «طلعنا من بيوتنا قبل ست سنين، كان عمري ثمانية أعوام وقتها، طبعاً ما شفت شي من طفولتي لحد هادا اليوم، وكرهت كل شي اسمه حرب وخطف وفقر وتشريد من مخيم لمخيم ومن بيت لبيت، وأنا هلق بقدر أتعايش مع أي حدا ما في برقبته دم، المهم تخلص الحرب والتارات ونرجع نعيش في بلادنا بخير، ونكمل باقي عمرنا بدون دم وخوف».

أبو سامر، أب لثلاثة أطفال، يقول: «العدالة الانتقالية مو بس للمحاكم أو الكبار، هي كمان بتعني إنو حقوق الولاد لازم ترجع وتضمن أنه ما حدا يستغلهم. والسلم الأهلي هو الضمانة الوحيدة إنو يلعبوا ويكبروا بلا خوف بعيد عن الانتقام. ما في شي بيرجّع اللي راح، بس لما الولد يحس إنو في عدل وأنه الجيران متصالحين، بيصير ينام مرتاح وما يفكر إنو بكرا رح تنعاد المأساة».

دور النساء في السلم الأهلي

من قلب القرى المهدمة، وبين الحقول التي تحاول الحياة أن تعود إليها، تقف النساء كجسور للسلام، يخففن من وطأة الخلافات ويزرعن بذور التسامح في نفوس الأطفال. في كل مجلس نسائي وفي كل اجتماع، يكتبن صفحات من المصالحة بصبرهن وصمودهن، مؤكدات أن السلام يبدأ من البيت، ومن قلب المرأة التي تعرف أن الحياة أغلى من أي خصومة.

أم أسامة (48 عاماً) من قرية مرداش بسهل الغاب، واحدة من النساء اللواتي تحملن عبء سنوات النزاع والخسارة، تقول بصوت مليء بالحزن والإصرار: «ما حدا قادر يعوضنا، بس على الأقل بدنا نوقف توريث الكراهية لأولادنا». كلماتها تعكس رغبة صامتة لدى الكثيرين في القرى المختلطة بسهل الغاب لإنهاء دائرة الانتقام والخصومات العائلية، والعمل على بناء مستقبل أكثر سلاماً لأطفالهم بعيداً عن جذور الصراعات القديمة.

تضيف أم أسامة: «لسة ما صار تصالح كامل بين الناس، بس المهم صرنا نقدر نحكي مع بعض بدون خوف. الجيران صاروا يرجعوا لبعض شوي شوي، وأيام الحرب خلتنا نكفّ عن بعض، بس هلق صار في فرصة نرجع نثق ببعض، والبساتين اللي كانت سبب مشاكل صارت مجال تعاون بيننا وبين جيراننا».

أما آمنة الأحمد (50 عاماً) من قرية الحويجة، في سهل الغاب فتقول: «أكيد الطريق طويل، بس صرنا نحس إنو في بداية حياة جديدة رغم كل الجراح. في شوارع الحويجة، الحياة الجديدة بلشت تبين على الأطفال اللي عم يركضوا بين البيوت المهدمة، والنساء حاملين المي وعم يزرعوا الأراضي، والرجال عم يحاولوا يصلحوا بيوتهم. وهالشي يبين قديش الأهالي حابين يتجاوزوا الماضي ويبنوا مستقبل أحسن خطوة بخطوة رغم طول الطريق وصعوبة إعادة كل شي لحالته الطبيعية».

خطوات بطيئة نحو المستقبل

مع كل هذه المبادرات، لا تزال العقبات كبيرة والتحديات مستمرة، فانتشار السلاح في أيدي المدنيين يجعل أي خلاف عُرضة للتصعيد. ومن أبرز التحديات التي تجعل العدالة الانتقالية فكرة مؤجلة، غياب الثقة في المؤسسات المحلية والمنظمات المدنية، والخوف من الانتقام، خاصة بين العائلات التي فقدت أحد أفرادها خلال النزاع. كما أن الضغوط السياسية والعسكرية من الأطراف المسيطرة على المنطقة تحد من حرية المبادرات المحلية.

تجربة ريف إدلب تؤكد أن المصالحة والاستقرار والسلم في سوريا ليست أهدافاً بعيدة، بل عملية تدريجية تبدأ بالاعتراف بالماضي وإعادة الروابط بين الناس. القصص اليومية للعائدين تثبت أن التعايش السلمي ممكن حتى بعد سنوات من النزاع والصراع الأهلي، وأن كل خطوة صغيرة نحو العدالة وبناء الثقة تمثل خطوة نحو مستقبل أكثر أمناً واستقراراً للجميع.

ربما لن تُشفى جراح الحرب سريعاً، لكن في قلوب الذين عادوا إلى قراهم، وفي الحقول التي تعود للحياة، تولد البدايات، فالعدالة تبدأ حين نكفّ عن توريث الكراهية، ونمنح أطفالنا فرصة لأن يعيشوا بلا خوف.

يُنشر هذا الريبورتاج في إطار تعاونٍ بين «صوت سوري» و«شبكة الصحفيات السوريات» يتمحورحول العدالة الانتقالية في سوريا

العدالة_الانتقالية_في_سوريا السلم_الأهلي_في_سوريا

لديك تصويب أو ملاحظة؟ تفضل/ي بالتعرف إلى محررة القراء والتواصل معها

مقالات رائجة

This work by SOT SY is licensed under CC BY-ND 4.0