× الرئيسية
ملفاتنا
المستشارة
النشرة البريدية
تَواصُل
من نحن
اختر محافظة لتصفح المقالات حلب
الرقة
الحسكة
دير الزور
اللاذقية
طرطوس
إدلب
حماة
حمص
دمشق
القنيطرة
درعا
السويداء
ريف دمشق

سوريات ينسجن خيوط السلم الأهلي بأيادٍ منهكة

حكاياتنا - خبز 28-10-2025

لا يمكن بدءُ أي مسار لسلمٍ أهلي أو عدالةٍ انتقالية، من دون الاعتراف. الاعتراف بألم أم سامر ابنة جبلة التي فقدت أبناءها واحداً تلو الآخر، وبألم أمينة التي فقدت أطفالها في قصف نظام الأسد على الغوطة وبقيت تؤكد أثناء حديثي معها أنها لا تريد «عدالة انتقامية». ليس المطلوب مساواة بين الضحايا والجلادين، بل تسمية الألم باسمه ومنح كل وجعٍ مكانه في الذاكرة الجمعية

سارة خازم: صحافية سوريّة

في بيتٍ حجري صغيرٍ على أطراف مدينة جبلة، جلست أم سامر على أريكةٍ مهترئةٍ تقابل صورتي ابنيها المعلّقتين على الحائط، فيما كانت تمسك بيدها صورة الابن الثالث.

خسرت المرأة الستينية اثنين من أولادها خلال سنوات الحرب السورية. كان سامر يؤدي خدمته العسكرية الإلزاميّة في العام 2011، وتقرّر الاحتفاظ به، قبل أن يُقتل في العام 2014 على يد تنظيم «داعش» المتطرف. أما الابن الأوسط، عمّار، فقد تطوّع في الجيش بعد وفاة أخيه لإعالة والدته وأخيه الأصغر علي، لكنه قضى في 2017 أثناء هجومٍ مسلّحٍ على الحاجز الذي كان يناوب فيه.

«ما كان باقيلي غير هالصغير. بقولولي إنه صار رجال، بس أنا بضل بشوفو صغير. وهلق راح وما بعرف إذا راجع»، تقول أم سامر بصوتٍ متعب، قبل أن تروي كيف اقتاد مسلّحون ابنها في السابع من آذار/مارس الماضي إلى جهةٍ مجهولة بعد أن ضربوه ضرباً مبرّحاً، فقط لأنه علويّ، مؤكّدةً أن لا علاقة له بالجيش ولم يلتحق به مطلقاً. منذ ذلك الوقت، لم ترَ أم سامر ابنها، ولا تعرف عنه شيئاً، رغم مراجعتها المخفر في جبلة والأفرع الأمنية في اللاذقية.

تعيش أم سامر على أمل أن يعود ابنها، وتحمل صورته أينما ذهبت، رافضةً أن تعلّقها على الحائط بجانب صورتي أخويه اللذين لقيا حتفيهما. تقول لي إنّ الناس الذين اعتادت أن تشاركهم ألمها قد تغيّروا بعد سقوط النظام، وكأنّ الصلات التي كانت تجمعهم هشّة ومحملة بالدم والحقد منذ البداية. «طول عمري كنت واقفة جنب جيراني من كل الطوايف بمصايبهم، كنا واحد. هلق الكل عم يعاملنا على إننا مجرمين. أنا وولادي ما شبيحة، نحنا بس كان بدنا نعيش»، تقول أم سامر بحسرةٍ واضحة.

يسلّط هذا التقرير الضوء على أدوار النساء في مرحلة ما بعد سقوط النظام في سوريا، بين محاولات ترميم النسيج الاجتماعي ومواجهة سردياتٍ ذكوريةٍ تسعى إلى استخدام السلام ذريعةً لإسكات أصواتهن. كما يتناول كيف تتقاطع مبادرات النساء مع مسارات العدالة الانتقالية في سياقٍ لا يزال يتأرجح بين الرغبة في المصالحة والخوف من مواجهة الحقيقة.

مساران متوازيان تلتقي عندهما النساء

رغم أنّ مفهومي العدالة الانتقالية والسلم الأهلي يُستخدَمان كثيراً في الخطاب العام كمترادفين، وتكرّرا على نحوٍ مكثّف بعد سقوط نظام الأسد، فهما في الواقع مساران مختلفان، وإنْ تداخلا في كثير من الجوانب.

تُعنى العدالة الانتقالية بمواجهة ماضي الانتهاكات عبر آلياتٍ محدّدة مثل كشف الحقيقة، والمساءلة، وجبر الضرر، وإصلاح المؤسسات، بما يضمن عدم تكرار العنف وبناء عقدٍ اجتماعي جديد. أمّا السلم الأهلي، فيركّز على إعادة بناء العلاقات بين المجموعات المحليّة المتنازعة، وتهدئة التوتّرات الاجتماعية والطائفية، وإعادة نسج الثقة داخل المجتمع.

في سوريا، اليوم، لا تظهر ملامحُ إشراكٍ فعلي ومُمأسس للنساء في مسار السلم الأهلي، أو في مسار العدالة الانتقالية

غالباً ما تكون النساء في الصفوف الأمامية لمسار السلم الأهلي، من خلال أدوارهن في الوساطة والتهدئة وإعادة وصل ما انقطع بين العائلات والجماعات والطوائف. لكن في سوريا، اليوم، لا تظهر ملامحُ إشراكٍ فعلي ومُمأسس للنساء في هذا المسار أو في مسار العدالة الانتقالية. نجد، على سبيل المثال، «لجنة السلم الأهلي» التي شُكِّلت بقرارٍ من الرئيس الانتقالي أحمد الشرع عقب مجازر الساحل، مكوَّنةً بالكامل من رجال، وكأنّ المطلوب من النساء أن يكنّ «جسراً» بين المتخاصمين، لا شريكاتٍ في صنع القرار.

تُسلّم آراء كثيرة بأنّ دور النساء في تحقيق السلم الأهلي يرتبط، إلى حدٍّ ما، بأدوارهنّ الاجتماعية ومسؤولياتهنّ داخل العائلة. «في ما يخصّ السلم الأهلي، يكمن دور النساء في تربية أبنائهنّ على التنوع والاختلاف، أمّا في ما يخصّ العدالة الانتقالية، فهنّ الحافظات لحقوق الضحايا والمفقودين من خلال ارتباطهنّ الشعوري والحقوقي بهم»، تقول إيمان ناصر، الناشطة والمدرّبة في مجال المواطنة والتماسك المجتمعي، عند سؤالها عن دور النساء في هذين المسارين.

توافقها أمينة البقاعي، وهي إحدى منسّقات مبادرة «خيمة الحقيقة»، وتقول: «المسؤولية الأكبر في تحقيق السلم الأهلي حالياً تقع على عاتق الأمهات، من خلال تهدئة الأبناء في هذه المرحلة الحساسة المليئة بالتجييش، وحثّهم على رفض الحقد والعداوات تجاه الآخر».

«خيمة الحقيقة»: أصوات نسائية على درب العدالة الانتقالية

في إحدى الساحات العامة في بلدة دير العصافير، في الغوطة الشرقية لدمشق، نُصبت خيمةٌ غطّت جدرانها صورُ رجالٍ وشهاداتٌ مكتوبةٌ بخطّ اليد. داخل الخيمة، جلست نساءٌ من مختلف الأعمار، تضمّ بعضهنّ صورَ أحبائهنّ إلى صدورهنّ بثبات، ويتبادلن النظرات، وأحياناً أطراف الحديث، في انتظار بدء جلسة التعارف والبوح.

تلك الخيمة جزء من مبادرة «خيمة الحقيقة» التي أطلقتها نساءٌ سوريات بعد سقوط نظام الأسد، لتجتمع فيها النساء من ذوي المفقودين والمغيّبين قسراً لدى مختلف أطراف النزاع، في مساحةٍ يتشاركن عبرها قصصَ الفقد والنجاة والعنف، ويحاولن إيصال أصواتهنّ ومطالبهنّ إلى السلطات. وامتدّت المبادرة لتشمل عدداً من المحافظات والبلدات السورية، سعياً للوصول إلى أكبر عددٍ من العائلات وضمان تمثيلهنّ لأنفسهنّ.

تحكي لي أمينة البقاعي، وهي إحدى منسّقات خيمة الحقيقة في الغوطة الشرقية والقطاع الجنوبي، عن التجربة قائلةً: «بدأت الاجتماعات في المنازل، لكن مع الإقبال الكبير من السيدات، وبعض المساعدات اللوجستية من فرقٍ تطوعية، استطعنا الانتقال إلى الخيمة. أصبح لدينا مجالٌ للتحدث بصوت المفقودين الآن بعد سقوط النظام، فقد كنا في السابق منبوذات».

تمثّل هذه المبادرة خطوةً رمزيةً وعمليةً في آنٍ واحد، إذ تمكّن النساء من استعادة أصواتهنّ وإعادة كتابة السرديات التي يستند إليها مسار العدالة الانتقالية. كما يمكن اعتبارها مساحةً حرّة تُعيد فيها النساء رسمَ الذاكرة الجمعية بعدما هُمّشت تجاربُهنّ لعقود. ولم يقتصر هذا التهميش على تجاهل مساهماتهنّ، بل امتدّ إلى طمس أشكال العنف التي تعرّضنَ لها أو شهدنَها، باعتبارها «تفاصيل شخصية». وهنا يكمن أحد الأهداف الرئيسة للمبادرة: نقل قضية المفقودين والمغيّبين قسراً من الحيّز الخاص إلى الحيّز العام.

في هذا الصدد، تقول أمينة: «تروي النساء القصص كما يجب أن تُروى، ومن خلال تجربتي معهن في المبادرة، أدركت أن لكل قصة خصوصيتها التي لا تستطيع سوى المرأة أن تذكرها وترويها. وبرغم عاطفتهن الجياشة خلال الجلسات، فإنهن يحكّمن العقل، ويطالبن بتحقيق العدالة لأبنائهن عبر القانون حصراً».

حين يغدو السلم الأهلي ذريعة

استُخدمت في الأشهر الماضية عبارات مثل «هلّق مو وقت هالخطاب» أو «لا تفرّقوا الناس» لإسكات الناشطات اللواتي يطالبن بمساءلة، أو يطرحن قضايا حساسة مثل العنف الجنسي أو اختطاف النساء أو حتى مصير المفقودين. بذلك، يصبح السلم الأهلي ذريعة لإسكات الأصوات النسائية الناقدة، وتثبيت نظام اجتماعي يقوم على إعادة تمكين النخب الذكورية التقليدية، لا على بناء علاقات جديدة قائمة على العدالة والمساواة. هذه الديناميكية تهدد بتحويل السلم إلى عملية سطحية تُهدّئ التوتر من الخارج لكنها تُبقي بنى العنف القديمة على حالها.

تروي النساء القصص كما يجب أن تُروى، وبرغم عاطفتهن الجياشة، فإنهن يحكّمن العقل، ويطالبن بتحقيق العدالة لأبنائهن عبر القانون حصراً»

حتى اليوم، تواجه الناشطات السوريات في مجال السلم الأهلي تحديات عديدة تتخطى محاولات الإسكات. تحكي إيمان عن تجربتها الشخصية قائلة: «نُخوَّن بشكل يومي من جميع الأطراف، ولا تًشرّع قوانين لدعمنا في هذا المسار، كقوانين ضد خطاب الكراهية مثلاً، أو المحاسبة ومتابعتها».

وتُكمل: «العمل في هذا المجال يشبه الحفر في الرمل، يمكن العودة فيه إلى النقطة الصفر في أي لحظة. لكنني على ثقة بأننا إذا زرعنا البذور بالشكل الصحيح فستثمر وتعطينا ما نريد».

يُعد التحريض، والعنف اللفظي، وحملات التشهير، من الأدوات الذكورية التي تُستخدم أيضاً ضد الناشطات، لكونهن نساء بالدرجة الأولى، ولكونهن ينشطن في مجال حساس يتطلب مواقف حاسمة تجاه قضايا أو حوادث تنتج عنها عادة انقساماتٌ أو استقطاباتٌ حادةٌ بين الناس. تقول إحدى الناشطات، مُفضلةً عدم ذكر اسمها في التقرير، إنها بعد الاعتداء اللفظي والجسدي عليها وعلى أصدقائها في أحد الاعتصامات التي دعت إلى حقن الدماء، أغلقت حساباتها على مواقع التواصل الاجتماعي وانسحبت من الفعاليات العامة، مؤكدة أن العديد من صديقاتها فعلن الشيء نفسه وأصبحن يعملن «من دون إثارة ضجة» لتفادي المضايقات.

آفاق المستقبل

أصبح مسار السلم الأهلي، والعدالة الانتقالية، أكثر تعقيداً بعد المجازر الطائفية التي وقعت في كل من الساحل السوري والسويداء، على يد عناصر تابعة للسلطة السورية الجديدة، أو مؤيدة لها. فقد ازدادت الخسارات، وتعمّق الشرخ بين مكونات المجتمع السوري، الذي وصل إلى هذه الحالة من التنافر نتيجة تمزقٍ قديم في النسيج الاجتماعي، ازداد اتساعه على مدى أربعة عشر عاماً من الحرب.

بعد حضورها عدداً من الجلسات المحلية التي دعت إلى المصالحة الأهلية في مدينة جبلة، أدركت أم سامر أنها جزء من شيءٍ أكبر من الانتظار وحده، وأنها تتشارك الألم مع نساءٍ سوريات أخريات فقدن أحبّاءهن بطرق مختلفة، وإن اختلف الطرف المسبّب.

«بالنهاية يمكن ما مهم طايفة اللي أخدوه ولا ليش أخدوه، المهم يوصل صوتي وإقدر أعرف شي عنه. بدي ضل إحكي عنه حتى ما يتنسى، وكل العالم تعرف قديش كان قلبو طيب وحنون»، هذا ما قالته أم سامر حين التقينا آخر مرة.

يُنشر هذا الريبورتاج في إطار تعاونٍ بين «صوت سوري» و«شبكة الصحفيات السوريات» يتمحور حول العدالة الانتقالية في سوريا
العدالة_الانتقالية_في_سوريا السلم_الأهلي_في_سوريا

لديك تصويب أو ملاحظة؟ تفضل/ي بالتعرف إلى محررة القراء والتواصل معها

مقالات رائجة

This work by SOT SY is licensed under CC BY-ND 4.0