× الرئيسية
ملفاتنا
المستشارة
النشرة البريدية
تَواصُل
من نحن
اختر محافظة لتصفح المقالات حلب
الرقة
الحسكة
دير الزور
اللاذقية
طرطوس
إدلب
حماة
حمص
دمشق
القنيطرة
درعا
السويداء
ريف دمشق

حوران، أو «عكس المدن الميتة»

عقل بارد - على الطاولة 31-10-2020

لا يزال حسن الجوار هو الغالب على العلاقات في حوران، مستنداً إلى جملة من الأخلاقيات والأعراف التي نجحت في ضبط توترات ناجمة عن تداخلات كثيرة على امتداد عشر سنوات من الأحداث الأمنية، في منطقة تعيش ظروفاً غير طبيعية على الإطلاق، ومفتوحة على محاولات عبث وتأجيج كبيرة

الصورة: (Ibrahim Younes - فليكر)

من بين النقوش المكتشفة في حوران، ثمّة نقش في قرية شقرا (ريف درعا الشمالي الشرقي)، ينصّ على «منع إنشاء بيدر لدراسة الحنطة، أو مستودع، أو أي منشآت أخرى، على مكان مشترك». لا تقدم المصادر التي اطلعنا عليها إجابة قطعيّة حول الحقبة التي ينتمي إليها النقش: أهي الرومانيّة؟ أم البيزنطية؟ 

لكن، ما نراه أهمّ هنا، هو الغرض من النقش. يخلص العالم الفرنسي كليرمون غانو / Clermont-Ganneau (1846 – 1923) إلى أنّ المقصود بـ«مكان مشترك» هي تلك الأراضي الواقعة بين قريتين.

نحن إذاً، وفقاً لتفسير غانو، أمام «معاهدة حسن جوار»، نصّ عليها نقش تاريخي أثري في حوران. 

كان تاريخ المنطقة، شأنه شأن التاريخ البشري في معظم الجغرافيات، شاهداً على فترات ازدهار، وفترات نكوص، ولطالما ارتبط الازدهار، باستقرار العلاقات بين السكان المتجاورين وهيمنة السلم على المنطقة.

يشير الآثاري الفرنسي إرنست ويل /Ernest Will ، إلى أن إحدى أشد الحقب ازدهاراً في تاريخ حوران، تعود إلى أيام «كان السلام الروماني يفرض الأمن ويحقق الازدهار».

وبالمثل، تدلّل المعطيات الأثرية على أنّ مسار الحياة في حوران يشكل سلسلة متصلة، وأن المنطقة لم تعرف مثلاً تجربة مماثلة للشمال السوري في خلوّ مدن وممالك من سكانها، في ما يُعرف بالمدن الميتة. ويلاحظ الدارسون أن مناطق الاستيطان البشري في حوران عبر التاريخ تكاد تطابق نظيرتها اليوم، ما خلا بعض المواقع المتفرقة الدارسة والمهجورة، فضلاً عن أن الصور الجوية تبيّن ندرة المناطق الحورانية التي لم تخلف آثار تنمية زراعية مزدهرة. 

إن كل ما تقدم يعطي دليلاً واضحاً على أن الاستقرار كان هو القاعدة الأعم في حوران.

كان تاريخ حوران شاهداً على فترات ازدهار، وفترات نكوص. ولطالما ارتبط الازدهار، باستقرار العلاقات بين السكان المتجاورين وهيمنة السلم على المنطقة

نعم، لقد شهدت المنطقة احترابات بين وقت وآخر، لكنّ الأمور سرعان ما كانت تعود إلى نصابها، وهذا على الأرجح نابعٌ من فهم عفوي لثوابت الحياة المشتركة، التي تستند في شكل كبير على تناوب بين الذاكرة والنسيان. تلك الثوابت التي تبدو في نظر كثير من المنظّرين، مركزيّة حتى في سياقات تشكّل الأمم. (مثلاً، يرى جول ميشليه / Jules Michelet، أن «جوهر الأمة يتمثل في امتلاك جميع الأفراد أشياء مشتركة، وفي أنّ لديهم أشياء ينسونها»).

بمرور الوقت كانت فترات السلم الأهلي في حوران تُراكم إحساساً بالانتماء المشترك، وخفضاً لنزعات الاحتراب، يلاحظ حنا بطاطو في كتابه الشهير «فلّاحو سوريا»، أنّ «الحس بالانتماء إلى جماعة واحدة ضمن المنطقة (والحديث عن حوران) ينمو على نحو ملحوظ».

لا يمكن في حال من الأحوال، البحث في علاقات الأهل والجيران في حوران، من دون التوقف عند جزئية شديدة الأهمية قوامها الطبيعة العشائرية لسكان المنطقة، معطوفة بشكل أساسي على جهود السلطات في تغذية الحس العشائري ونزعات الاحتراب. هذا الوتر الذي لعب عليه في حوران العثمانيون، والفرنسيون، ودمجوا معه وتراً آخر لا يقل حساسية، هو الوتر الديني – المذهبي. وبدورها، لم تشذّ السلطات السورية – البعثيّة كثيراً في المسألة العشائرية، بينما تركت الوتر المذهبي بعيداً عن العبث. 

في العام 2011، ومع بدايات اندلاع الحدث السوري، كان حسن الجوار بين درعا والسويداء، سيد الموقف. ولا أدلّ على ذلك من توافد عشرات آلاف النازحين من درعا المنكوبة، إلى السويداء.

وحتى اليوم، لا يزال حسن الجوار هو الغالب، مستنداً إلى جملة من الأخلاقيات والأعراف التي نجحت في ضبط توترات ناجمة عن تداخلات كثيرة على امتداد عشر سنوات من الأحداث الأمنية، في منطقة تعيش ظروفاً غير طبيعية على الإطلاق، ومفتوحة على محاولات عبث وتأجيج كبيرة، تقوم بها دولٌ وجماعات وأجهزة. ويمكننا الزعم، مطمئنين إلى أننا لا نبالغ، أنّ العلاقات بين الأهل المتجاورين في حوران أقوى من كل تلك الجهات، وإلا لكنا اليوم أمام أنهار دماء لا تجف. 

لا يصعب إيجاد تفسيرات لهذه القوة في العلاقة، ومن المفارقات أنّها في معظمها أسباب قائمة على الأرضية ذاتها التي ولّدت (أو استُخدمت لتوليد) بعض النزعات الاقتتالية، ونعني البنى العشائرية. 

في أثناء إعدادنا لهذا الملف، استجابت بعض منظمات المجتمع المدني في كلّ من درعا وللسويداء للتعاون معنا بحماس كبير. وبفضل هذه الاستجابة، وصلتنا خلاصات لنقاشات وحوارات عدّة أجريت في كل من درعا والسويداء لمناقشة بعض المواضيع المفتاحية في هذا الملف. كان لافتاً أنّ آراء كثيرة أشارت إلى دور محوري للوجهاء والزعامات العشائرية والمحليّة، في ضبط إيقاع التوتّرات الطارئة بين وقت وآخر. وبقدر ما يكشف هذا التفصيل أهميّة وجود صمامات أمان قادرة على التأثير، بقدر ما يشير إلى خلل هائل في العقد الاجتماعي الناظم لعلاقة السوريين بدولتهم، وإلى فشل متراكم في تعزيز الانتماءات الوطنية، بينما ثبتت الانتماءات الـ«تحت وطنيّة». (نقول إنه فشل متراكم، بافتراض حسن النوايا، وخلاف ذلك، لا ننفي احتمال كونه نهجاً مقصوداً). 

اللافت أيضاً، من بين الخلاصات التي وصلتنا، تأكيد كثير من الآراء على دور سلبي كبير لعبه الإعلام في محاولات توتير الأجواء بين المحافظتين، وهو أمر لا يجافي الواقع كثيراً.

لقد اضطلعت وسائل إعلام عديدة بأدوار تأجيجية على امتداد الحرب السورية، لا في ما يخص حوران فحسب، بل في كل الجغرافيات السورية. لا نفترض هنا بالضرورة أنّ هذا الفعل كان قصديّاً دائماً، غير أن الدور السلبي لُعب، ولا يزال. ثمة نظرة تنميطية تم تكريسها، عبر تصنيف كل محافظة من المحافظتين على ضفة سياسية من ضفتي الصراع، ثمة تحريض طائفي، مباشر حيناً، وغير مباشر حيناً آخر. ثمة لغة تعميمية تُعتمد مع كل شرارة تندلع في المنطقة، تسعى إلى تصوير أي نزاع جانبي على أنه احتراب أهلي بين السهل والجبل، كل السهل وكل الجبل، وهذا أمر معاكس تماماً لواقع الحال.

مراجع

- سوريا الجنوبية – حوران / بحوث أثرية في العهدين الهلليني والروماني – مجموعة من الباحثين – دار الأهالي / 1988

- فلاحو سوريا – حنّا بطاطو – المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات / 2014

- الجماعات المتخيلة – بندكت أندرسن – قدمس للنشر والتوزيع / 2009

- خلاصات لحوارات وجلسات نقاش أجراها شركاؤنا في منظمات المجتمع المدني، في درعا والسويداء


Share!

لا يتبنى «صوت سوري» أي توجه مسيس للملف السوري ولا تقف وراءه أي جهة سياسية.
نحن نراهن على دعمك لنا في الوصول إلى جميع السوريين والسوريات.

إذا رأيت أن خطابنا يستحق الوصول انشري / انشر هذا المقال من فضلك

لديك تصويب أو ملاحظة؟ تفضل/ي بالتعرف إلى محررة القراء والتواصل معها