× الرئيسية
ملفاتنا
المستشارة
النشرة البريدية
تَواصُل
من نحن
اختر محافظة لتصفح المقالات حلب
الرقة
الحسكة
دير الزور
اللاذقية
طرطوس
إدلب
حماة
حمص
دمشق
القنيطرة
درعا
السويداء
ريف دمشق

دفتر البونات: حين لم يكن الإذلال مؤتمتاً

حكاياتنا - حشيش 01-02-2021

دفاتر البونات تلك، هي السلف الصالح للبطاقة الذكية هذه اﻷيام، وتتكون من أوراق ملونة قليلة السماكة، رديئة الصنع، عليها أرقام متسلسلة، تضمن حصتنا من الرز والسكر والشاي والمحارم، واﻷفراح المؤجّلة، موزّعة على أشهر العمر

جيل البطاقة الذكية من السوريين، لم ينل شرف حمل «دفاتر البونات»، ولا شرف وضعها في كيس الخبز الشفاف، وضبّها إلى شغاف القلب لحمايتها من كل أنواع المخاطر الكونية، مثل المطر والفقدان.

أما في البيت فكانت أثمن من أن توضع في متناول اﻷطفال الحلوين، وهو ما كان يدفع أبي إلى حفظها في حرز حريز، والقفل عليها وراء سبعة أبواب، بسبعة مفاتيح.

حتى اليوم، لم أعرف سبباً لتسمية تلك الدفاتر بـ«البونات»، مع أنني فتحت قاموس لسان العرب الطويل (خمسة عشر جزءاً) فما وجدتُ إلا كلمة «بَوْن»، وهذه وفق الزمخشري، ومحاسب التموين، تعني المسافة بين شيئين أو كائنين. وعلى ما يبدو فإن بوناتنا، هي جمع سوري للبون، تعبيراً عن تلك المسافات التي تفصلنا عن أحلامنا السكرية، والرزّية، والزيتية، وحتى السمنية.. وإلخ

دفاتر البونات تلك، هي السلف الصالح للبطاقة الذكية هذه اﻷيام، وتتكون من أوراق ملونة قليلة السماكة، رديئة الصنع، لها أرقام متسلسلة، وعليها عدد أفراد العائلة، تضمن حصتنا من الرز والسكر والشاي والمحارم، واﻷفراح المؤجّلة، موزّعة على أشهر العمر، وما إن ينتهي الدفتر حتى يتوجب على رب العائلة البدء بمعاملة جديدة، للحصول على دفاتر جديدة، بعد تسليم اﻷرومات لموظف التموين، أو المؤسسة الاستهلاكية.

تضع الأسرة مع دفاتر البونات، ودفتر العائلة، علبة المحارم ذات المقام العالي، ماركة كنار الحمراء أو الخضراء، في أعلى نقطة من البيت، كي لا يصل إليها إلا صاحب الظل الطويل، وتُسحب وريقاتها بخالص الحذر، فمخصصات المواطن محرمة واحدة يومياً. العناية اﻹلهية كانت حاضرة وقتها، فلم يكن هناك كورونا وتحديثاته. 

كان أحد أقوى البراهين على كرم عائلة ما، أن تضع لضيفها مع كأس الشاي، وعلبة السكر، علبة المحارم، ليسحب منها واحدة أو اثنتين أثناء شربه الشاي، وحين كان الضيف يتجاوز ثلاث محارم، كان الجميع ينظر إليه بشزر، واتهام بالطمع والجشع، وعدم التقدير والتقتير.

حين كان التموين يصل إلى المؤسسات الاستهلاكية، كان مؤذن الجامع يتبرع بإيصال الخبر إلى الجماهير باستخدام مكبر الصوت الذي يُستخدم للأذان أيضاً (ياللقداسة)، ويهرع من فوره إلى انتظار دوره في الطابور الطويل دائماً، ولذلك، عليكم أيها السوريون / ـات، إكثار الحمد والشكر للحداثة ونعمها حين تصل رسالة الإعاشة الحالية، كي تهرعوا من فوركم للانضمام إلى طابور الصمود والتصدي.

كان في قريتنا مركز واحد لتوزيع اﻹعاشة تلك، تديره صبيةٌ تقدم لخطبتها - بعد توظيفها - نصف شبان القرية، ولكنها تكبرت على الجميع، فإذا أعلن منادي الجامع وصول الإعاشة، خرجت نسوة القرية، وخرج بعض رجالها، وتربعت الطناجر على الرؤوس، والأكياس البيض في الأيدي، ودفاتر البونات العزيزة قرب القلوب، والأثداء، والنهود. 

كنا نحن - معاشر اﻷطفال المعاليق - نتشبث بالتنانير الملونة في رحلة الحج المقدس تلك، وقتها كانت ذروة أحلامنا أن يحمل واحدنا أو واحدتنا مع السيدة الوالدة علبة المحارم التي توزّع لنا كل شهر، وعند وصولنا إلى باب المؤسسة الواقع قرب عين ماء، غالباً ما كنا ننسى مهمتنا اﻷصلية ونبقى في حضن الماء.

الزحام والتدافع ليسا أمرين جديدين على حياتنا، لطالما كانت أمهاتنا يتصارعن للوصول إلى حضرة الوالي الأعظم، موظفة المؤسسة المتكبرة تلك، ومع ضياع نصف النهار في الصراعات، تنجح أمي في الحصول على بضع كيلو غرامات من اﻷرز، والزيت اﻷحمر، والسكر اﻷحمر شغل معمل سكر حمص. 

أما أبي، فلم يحضر أي موقعة من تلك المواقع التاريخية، كانت أمي تحرمه من ذلك الشرف الرفيع، مخافة حدوث مشادة، لن تنتهي وقتها بسلام.

كانت الموظفة المعنية بالدفاتر تتعامل باحترام وتبجيل، لا تفهموني خطأ، تتعامل بتبجيل مع الدفاتر لا مع المواطنين، فتقص أوراقها بالمقص، أو المسطرة، تبعاً لعدد أفراد اﻷسرة، بعد كتابة اسم رب الأسرة، المواطن الصالح، عليها، ومن دون توقيعه الكريم، ثم تستلم الأسرة حصتها من اﻹعاشة. هل فكرتم كم هي بشعة هذه الكلمة؟ 

قبل فترة وجيزة، دخلت في نقاش حامي الوطيس مع مواطن لا يتحمس للتحديث والتطوير، كان يتساءل: لماذا أصرّت الحكومة العزيزة على إلغاء تلك الدفاتر، وطرحت بدلاً منها البطاقة الذكية؟ يا له من تساؤل قصير النظر‍!

الفكرة يا جماعة، أن علينا مواكبة حداثة التفقير والانتظار والطوابير، تخيلوا أن تعتمد الحكومة الرشيدة استخدام الدفاتر في زمن الموبايلات والتطبيقات والأندرويدات! 

عيب.. طبعاً عيب، ماذا ستقول بقية الحكومات؟ تخيلوا أن يقولوا: «والله رشيدة عم تجوع مواطنيها ع الطريقة القديمة»! عدا عن أننا لسنا من هواة قطع الأرزاق عن العباد، فكم من موظف يختبئ وراء بطاقتنا الذكية منهمكاً في النضال كي نبقى على قيد الحياة؟

سأبوح لكم بسر، أخبرني به ابن خالتي اللي بيشتغل بالبحوث العلمية، هناك إحساس حكومي بالتقصير لأن الإعاشة لم تتغير كثيراً، وما زالت مثل ما كانت قبل عشرات السنين تقتصر على السكر والرز والزيت، وخلافه، وهذا يتنافى مع التطوير والتحديث، لذلك سيقرر أولو الأمر قريباً توسيع القوائم الذكية، لتشتمل على المسلّيات، من قضامة، وبزر، ومصاصات، والكثير الكثير من الخيار.


Share!

لا يتبنى «صوت سوري» أي توجه مسيس للملف السوري ولا تقف وراءه أي جهة سياسية.
نحن نراهن على دعمك لنا في الوصول إلى جميع السوريين والسوريات.

إذا رأيت أن خطابنا يستحق الوصول انشري / انشر هذا المقال من فضلك

لديك تصويب أو ملاحظة؟ تفضل/ي بالتعرف إلى محررة القراء والتواصل معها