لمى نور
«لدي رغبة بأن نكون "سوريين" فقط، من دون أن تتبع ذلك أية صفة»، يقول رامي، ويضيف شارحاً: «كنا وما زلنا: سوريين مضطهدين، سوريين لاجئين، سوريين مقموعين، سوريين ضائعين مشتتين منتظرين، سوريين مقسمين يحكمنا خوفنا وتعبنا للبقاء على قيد الحياة. لماذا لا نكون مرةً سوريين فقط؟ لماذا لا نكون شعباً لا نعوت تتسعه ولا ألقاب تحيط به من كل جانب؟».
رامي شاب سوري، تخرج من كلية الاقتصاد، ويعمل محاسباً في أحد مقاهي دمشق.
يتحدث الشاب عن رغباته ورؤيته للأيام القادمة في سوريا. يقول: «أصبحنا عبارة عن ردود فعل فقط لما نتعرض له. ليست لدينا أفعال تعبِّر عما نريد، ما الذي أريده؟ أو كيف أرى مستقبلي؟ ليس لدي جواب! بإمكاني أن أعدد عشرات التوقعات عما يمكن أن يحدث، ولكن لا أعرف ما الذي سيحدث حقاً».
ويضيف: «ليس أمامنا سوى الأمل، نحن شباب مع كل إشراقة شمس نتأمل أن يحدث شيء يغير حياتنا، أن تحل معجزة تنقلنا من هذا الواقع إلى واقع آخر»!
يمكنني المغامرة والجزم بأن رامي لا يمثل نفسه فقط، معظمنا نحن السوريين اليوم - وخاصة في الداخل - هكذا، ننام ونستيقظ مع قلق يلازمنا في كل اللحظات. مع كل تفصيل صغير، وفي كل نهار، يتزايد قلقنا، فلا شيء ينبئ بأن الحال سيكون أفضل.
لا إجابات شافية عن أسئلة المستقبل هنا، الحيرة والضياع يتسيدان المشهد. الكل - أو المعظم على الأقل - يعنيه المستقبل بقدر ما يغير حياته الشخصية فحسب، أما التفكير في مستقبل البلاد، فيكاد يكون عابراً، وبالحد الذي يؤثر على هذا أو تلك!
كُثر ممن طرحت عليهم السؤال، أجابوا بسخرية: «عن أي مستقبل تتحدثين»؟! فيما بدا اليأس جلياً على وجوههم.
سوريا المستقبل غير مكتملة الخطوط والملامح لدى أبنائها، حتى الآن.
«على قلق..»
«ذلك الانتماء القوي في أعماقي أصبحت أشك في وجوده، هل هذه هي بلادي التي أحب؟ بكل تأكيد لا»، تقول لميس، وتضيف «أنا في الثانية والأربعين من عمري، لنفترض أنني سأعيش عشرين سنة أخرى، هل سأشهد سلاماً في بلادي؟ لا أظن أن هذا سيحدث، بل إنني في معظم الأحيان أشعر بأن المعارك ستعود للاشتعال ثانية».
تعيش لميس، في الحي الذي أسكنه. غالباَ ما تكرر عليَّ سؤالاً محدداً «شو رح يصير بالبلد لسة»؟ أجيبها بأنني لا أعرف، ولكنها تعود وتسألني السؤال ذاته كلما التقينا مجدداً.
قبل خروجي، يناديني ليقول جملة أخيرة: «المستقبل قادم بكل تأكيد، وكلنا يعلم ذلك. لكن هل هو جيد؟ أم سيئ؟ هذا متوقف على من سيصنعه»
في المرة الأخيرة فكرت طويلاً في دوافع إلحاحها على السؤال وانشغالها به، هي التي تبدو ملامحها خائفة جاهزة للمفاجآت في كل مرة تسأله. هل هو نقصُ المعرفة بخفايا ما يحدث؟ أم عدم الاستقرار الذي نعيشه؟ أم الخوف الذي يكبر يومياً نتيجة العيش في واقع تعمُّه الفوضى؟ أم كل هذه الأسباب معاً؟
تلك السيدة باحت لي مرة بأنها تخاف على ابنها ذي العشرة أعوام من أن يبلغ العشرين والبلاد على حالها، ثم سألتني: «معقول؟ أو في أمل؟» شعرت بأنني مسؤولة عن خوفها، أو ارتياحها، فأجبتها جواباً موارباً: «طبعاً».
المستقبل على طاولة نرد
في الشارع الضيق الذي يصل حارتي بالشارع العام للمدينة، تتجاور بعض المحال التجارية الصغيرة. في محل للكهربائيات يجتمع ثلاثة رجال مساء كل يوم، يلعبون الطاولة، ويتحادثون. للثلاثة آراء متباينة حول مستقبل البلاد. أصغرهم سناً في الثامنة والأربعين من عمره، يُعرف بـ أبو ماجد.
يقول الرجل: «أحياناً أشعر بتفاؤل شديد، وبأن البلاد تتعافى، وسنكون قادرين على العيش بشكل طبيعي، لكنني اكتشفت أخيراً أن هذه رغبتي الداخلية وما أتمناه فقط. أما الواقع فمختلف كثيراً. منذ شهر تقريباً أعيش حالة صدمة مستمرة، بدأت حياتنا تخرج عن سيطرتنا، ونحن نفكر في مخرجٍ خسائره أقل».
يضيف: «أخاف أن تبقى الأوضاع كما هي بقية حياتي، لا أشعر بأن انتهاء الحرب أو استمرارها مقياس للتحسن، تغير الظروف السياسية شيء بعيد، وحتى إن حدث لا أظن أن الحال سيكون أفضل».
يقاطعه العم أحمد ممازحاً، وهو يتحرق لكسب اللعبة، ويحاول كسب الحديث أيضاً: «أنت فكِّر كيف بدك تتعافى بعد خسارتك هاللعبة»، ثم يوجه حديثه إلي: «أنا لا أفهم كيف يمكن أن تتقدم بلاد نصف شعبها جالس يلعب الطاولة، ويتوقع ما الذي سيحدث. يا عمو نحن شعب تعبان. لا نستطيع أن نفكر في ما بعد العشاء، جميعنا يريد تغييراً هذا مؤكد ولكن ما لا نريده أن يزيد الخراب».
يستمر اللاعبان في الحديث واللعب، بينما يبقى الرجل الثالث صامتاً، إلى أن يسأله العم أحمد: «شو رأيك أنت أستاذ، لوين رايحة البلد»؟
يجيبه: «أولاً: البلد مذكر مو مؤنث، وأنا برأيي طالما هناك الكثير من الآراء التي تتداخل وتتضارب لا يمكن الوصول إلى حل. إذا افترضنا أن بداية الحرب كانت بين فئتين تتصارعان بشكل أساسي، فاليوم لا يمكنك أن تفهم من يتصارع مع من، هذا النوع من الحروب قد ينتهي بتقسيم. نحن غير قادرين على العودة إلى ما قبل العام 2011». يصمت الرجل لحظات، ثم يضيف: «ما سيحدث مرتبط بكثير من الأمور، وبالطبع نحن لن يؤخذ رأينا في أي شيء. أنا لا أرى أملاً بتحقق شيء مما أريده. دولة مدنية وفصل الدين عن الدولة أفضل ما يمكن أن يحصل برأيي، وهذا صعب في حالتنا».
أتبيَّن لاحقاً أن «الأستاذ» كما يناديه الرجلان، هو مدرس لغة عربية في مدرسة ثانوية. يستمر الحديث طويلاً بين أخذ ورد، إلى أن يختمه العم أحمد بقوله: «خليها على الله يا عمو، مستقبل ما في بهالبلاد».
أهم بمغادرة المحل، قبل خروجي يناديني مدرس اللغة العربية، ليقول جملة أخيرة: «المستقبل قادم بكل تأكيد، وكلنا يعلم ذلك. لكن هل هو جيد؟ أم سيئ. هذا متوقف على من سيصنعه».
لديك تصويب أو ملاحظة؟ تفضل/ي بالتعرف إلى محررة القراء والتواصل معها
This work
by
SOT SY
is licensed under
CC BY-ND 4.0