بديع الزمان مسعود
الصورة: (جدار برلين / Stefano Lista - فليكر)
قد يرى البعض أن عنوان هذا المقال ينتمي إلى فئة «الخيال الصحفي»، فمن قد يتصوّر أن هذه الدولة قد لا تكون موجودة على اﻷرض، أو على الخريطة؟
في الحقيقة، هذا الأمر ليس سهلاً على أحد، حتى على من لم تعد تربطه/ـا بهذه الجغرافيا سوى الذاكرة وبقايا العائلة، إن بقيت له/ـا فيها عائلة.
اختفاء الدول ليس مرتبطاً بزوالها من الجغرافيا بالمعنى الحرفي. نتذكر هنا ما حدث مع رائد الفضاء السوفياتي سيرجي كريكاليف، الذي طار إلى محطة مير الفضائية في 18 أيار / مايو 1991، وكان من المفترض أن يعود إلى الأرض بعد خمسة أشهر، لكنه مكث هناك شهوراً إضافية، ليعود إلى الأرض في 25 آذار / مارس 1992، بعد أن اختفت دولته، أي الاتحاد السوفياتي، من الوجود!
في الاختفاء النسبي الراهن لسوريا
ربما منعتنا عواطفنا، نحن السوريين، من الذهاب أبعد من خاطر عابر نهرب منه سريعاً، وربما لا نفعل، في ظل حقيقة واقعية فجّة، مفادها أننا نختبر فعلاً نوعاً من «الاختفاء» منذ سنوات.
تروي معلمة من إدلب، تعمل في دمشق، أنها لم تقدر على زيارة والدها المريض بالسكري ﻷن الطريق مقطوع منذ سنوات. ويروي صديق آخر، أنه فكّ خطبته على صبية من ريف حلب، ﻷنه لم يعد قادراً على ملامسة يديها منذ سنة على الأقل.
هناك الكثير لدى كلّ سوريّ ليرويه في هذا الشأن، وقد يتذكر البعض «تلك اﻷيام». لكن؛ هل تعود اﻷيام أساساً؟ هل يرجع الزمن إلى الوراء؟ لا. لو حصل ذلك، سنرفع القبعة مرة عاشرةً ومئةً للفيلسوف اﻷلماني كارل ماركس، الذي قال: «التاريخ يعيد نفسه مرتين: مرة على شكل مأساة، ومرة على شكل مهزلة»!
بين العامين 1840 و1975 شهدت الخرائط ظهور، ثم اختفاء قرابة خمسين دولة. عاد منها إلى الحياة مجدداً بضع دول، امتلك شعبها القدرة على إحيائها من جديد
عملياً، ومنذ سنوات نحن شهود على اختفاء نسبي لسوريا الدولة، الكيان، المساحة، الأرض، المناهج التربوية، السرافيس، القطارات، المواسم، النكات المشتركة.. إلخ
نحن شهود أيضاً على اختفاء الخريطة التي حفظنا جميعاً خطوطها المتعرجة، وزواياها الحادة، والمدوّرة، تلك التي كنا نستعجل في رسم خطوطها المستقيمة بجوار اﻷردن والعراق، ونتعب ونحن نرسمها مع تركيا ومع لبنان. يبدو أن قدرنا السوري أن تتعبنا الخرائط، كما يتعبنا الواقع المرتبط بها جغرافياً.
الأنكى، أننا قد نتعب في رسم الخرائط الجديدة أكثر فأكثر!
حدث هذا سابقاً!
سوريا اليوم، أو سوريا التي كانت، مقسّمة عملياً إلى «دويلات»، في كل منها قيادات، وإدارات، وجيوش، وأعلام.
لا ينبغي أن نغمض العين عن هذه الحقائق، ليس ﻷننا نؤيد التقسيم حتماً، ولا نبشر به، ولكن لنبحث في حالة دولة ليست الأولى، ولن تكون الأخيرة التي تختفي، وقد تعود.
نقول هذا، ونحن نعي خطورة هذا المنزلق، إن كان في التفكير بالتقسيم على أنه أمر واقع، أو في التفكير باختفاء الدولة ثم ظهورها موحّدة بعد حين لا نعلم عنه شيئاً.
هل يزعجك هذا التفكير الخطير؟ حسناً، فلنعد إلى سنوات ما قبل رحيل الفرنسي بقليل، لقد قُسمت سوريا إلى خمس دويلات في العام 1923، واستمر الأمر إلى ما قبل الاستقلال بعامين اثنين، وكان لكل واحدة منها علمٌ وعاصمة ومجلس رئاسي وأعضاء في البرلمان المركزي في دمشق، حتى إن بعضها أصدر طوابع تحوّلت اليوم إلى هدف لجامعي الطوابع حول العالم.
صحيح أن قرار التقسيم ذاك كان بناء على خطة فرنسية - بريطانية، ولكن كان هناك كثير من السوريين الذين دافعوا عن تلك الدويلات وعن حقها في الوجود، من مختلف الملل والنحل، ولم يكن الأمر حكراً فقط على «اﻷقليات» كما حاولت جهات عديدة اﻹيحاء. لمن يرغب في الاطلاع على تلك الحقبة من تاريخنا «المجيد» العودة إلى وثائق الخارجية الفرنسية، التي رُفعت عنها السرية منذ أقل من ربع قرن، ففيها العجب العجاب.
تلك «الدويلات» اتحدت لاحقاً، نتيجة ظروف حكمت اللعبة الدولية وقتها. لا يمكن لأحد أن ينفي طبعاً أن التئام الشمل وقتها جاء تتويجاً لنضال وطني، جعله قادة الثورات السورية هدفاً عزيزاً عليهم، وقد نجحوا فيه. لكن عاملاً أساسياً أسهم في ذلك النجاح، كان نتيجة توافقات دولية ارتأت أن «تنضب» تلك الدويلات في دولة واحدة. ولمن يرغب أيضاً التفتيش عن هذا، أن يعود إلى الوثائق الفرنسية والبريطانية.
يؤكد كلامنا السابق، وبعيداً عن الرومانسية، التي لا تنفع في زمن الصواريخ العابرة للقارات، أن حدود هذه الدولة لم تستقر منذ تأسيسها المعاصر بعد اتفاقية سايكس بيكو، إلى اﻵن. هل نعدد ماذا فقدنا من أراض منذ العام 1939؟ لا نظن أن أحداً يجهلها.
نقترب خطوة مما نحن فيه اليوم. لقد اختفى العلم الوطني الرسمي من عدد من الساحات، والشوارع، والمدارس، والمؤسسات، في مناطق متعددة من سوريا، لتحلّ بدلاً منه أعلامٌ أخرى.
ارتفعت أعلام كثيرة فوق هذه الجغرافيا، بعضها مستحدث، وبعض أعيد إحياؤه، وفوقها أعلام ورايات خارجية لدول وكيانات.
مرحباً بولندا
حسناً، الخطوة التالية في رحلة المتخيل ـ الواقعي هذه، ما يحكيه التاريخ عن دول سادت، ثم بادت، ثم عادت!
بين العامين 1840 و1975 شهدت الخرائط ظهور، ثم اختفاء قرابة خمسين دولة. عاد منها إلى الحياة مجدداً بضع دول، امتلك شعبها القدرة على إحيائها من جديد.
على سبيل المثال:
من سوء حظ بولندا، أنها وقعت في مرمى نيران حربين طاحنتين شهدتهما القارة الأوروبية، وسميتا عالميتين بحكم أنهما امتدتا إلى قارات «العالم القديم».
لم تكن بولندا موجودة بوصفها دولة حتى نهاية الحرب العالمية اﻷولى، وكانت أراضيها الحالية مقسمة بين اﻹمبراطورية الروسية، والممالك اﻷلمانية، قبل توحيدها من دون كيان سياسي أو قومي.
للدول صيرورات متغيرة بين وقت وآخر، وهي قادرة على الانبعاث حتى ولو اندثرت نهائياً واختفت من الخريطة. قد لا يحدث ذلك من دون ترتيبات عالمية كبرى، لكن الترتيبات وحدها لا تعيد دولاً، ما لم تسعَ الشعوب إلى ذلك
بعد الحرب العالمية الأولى أقرت معاهدة فرساي - التي أفضت إلى تقاسم أراضي ألمانيا وبروسيا والدولة العثمانية بين قوى الحلفاء - إنشاء «دولة بولندا»، ومنحتها المعاهدة ممراً على بحر البلطيق سُمّي الممر البولندي، إضافة إلى مدينة دانزيغ ذات الغالبية الألمانية، التي يديرها مفوض من عصبة الأمم.
لم يدم ذلك طويلاً.
في أيلول من العام 1938 شنّت القوات اﻷلمانية هجوماً على دولة بولندا، احتلّت فيه أكثر من نصف أراضيها، وفي 17 منه لحقتها القوات السوفياتية التي احتلت ما تبقى، وتقاسم البلدان اﻷراضي البولندية طبقاً لاتفاق بين هتلر، وستالين في 23 آب 1939، وهو اتفاق بقي طي الكتمان حتى مطلع الخمسينيات من القرن الماضي، بعد كشف وثائق عن الاتفاق من قبل الحلفاء.
وإثر الغزو اﻷلماني المذكور اندلعت الحرب العالمية الثانية.
كان الاتحاد السوفياتي مرتبطاً مع بولندا باتفاقية عدم اعتداء، وقّعت العام 1932 على أن ينتهي مفعولها في العام 1945. لكن في 17 أيلول 1939، أعلن السوفيات أن الاتفاقية فقدت صلاحيتها لانتهاء وجود بولندا بوصفها دولة بعد الغزو الألماني، وفي اليوم نفسه غزوا بولندا، فكانت الضربة القاضية للمقاومة فيها.
في 29 أيلول أعيد ترسيم الحدود الجديدة، فأخذت ألمانيا ثلثي بولندا، فيما احتل السوفيات المتبقي. خلّف الاجتياح خسائر ضخمة في صفوف الجيش البولندي، بلغت نحو ستين ألف قتيل وسبعمائة ألف أسير، فيما انسحبت القوات البحرية البولندية إلى المملكة المتحدة (بريطانيا).
واختفت بولندا مجدداً من الخريطة!
مع نهاية الحرب العالمية الثانية بانتصار الحلفاء، استعاد البولنديون الجزء الذي احتلته ألمانيا، أما الجزء الذي احتلّه السوفيات فقد بقي معهم، ﻷن الاتحاد السوفياتي كان من الحلفاء المنتصرين! (حالياً تتوزع تلك اﻷراضي بين روسيا وليتوانيا).
مقابل اﻷراضي الضائعة مع الاتحاد السوفياتي، أعطى الحلفاء للبولنديين أجزاء من ألمانيا!
عادت بولندا إلى الوجود، وتحوّلت إلى مركز رئيسي للكتلة الشيوعية، فتأسس فيها حلف وارسو، وبقيت في هذا الفلك حتى نهاية الثمانينيات، حين انطلقت منها موجة الربيع البرتقالي، الذي أتى على الكتلة الشرقية، والاتحاد السوفياتي معاً.
في المحصلة، اختفت بولندا الحديثة ست سنوات كاملة، رغم وجود مقاومة ضد النازيين فيها، إلا أن عودتها إلى الحياة كانت مرهونة بالترتيبات التي شهدتها أوروبا بعيد الحرب، ولم يعد البولنديون إلى المطالبة بالأراضي التي خسروها. لاحقاً، دخلت البلاد في هيكلية الاتحاد اﻷوروبي لتتحول إلى قوة اقتصادية ذات وزن فيه.
وضعنا السوري - حتى اﻵن - أقل سوءاً بكثير من وضع بولندا في الحرب العالمية الثانية!
أمثلة أخرى
هناك مثال ثان ساطع: دولة حاضرة بقوة في السياق السوري اﻵن، هي روسيا التي اختفت من الوجود قرابة ثمانين عاماً، وعادت بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، وعادت معها خمس عشرة جمهورية سوفياتية، بعد مخاض اقتصادي وسياسي دام قرابة العقد.
إلى جوار روسيا هناك دولة اختفت أيضاً، كان لها نصيب من ذاكرة السوريين، عبر جملة من المشاريع الاقتصادية الكبيرة، هي دولة ألمانيا الديمقراطية (الشرقية). اختفت هي اﻷخرى، لكن بطريقة «إيجابية» إثر اندلاع الربيع البرتقالي، فاندمجت مع ألمانيا الغربية، في الدولة اﻷلمانية منذ العام 1990 وقت انهيار جدار برلين، الحدث التاريخي البارز.
موطن الشاهد هنا، أن تلك الدولة التي عاشت أقل من نصف قرن، كانت في الأصل نتاج تقسيم للدولة الأم، إذ قرر الحلفاء استحداثها عقب هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الثانية، لكن، في نهاية المطاف، قال الألمان كلمتهم، وهُدم الجدار
الأمثلة كثيرة بلا شك، وما نريد اختتام هذه المادة به هو التأكيد على أن للدول صيرورات متغيرة بين وقت وآخر، وأنها قادرة على الانبعاث حتى ولو اندثرت نهائياً واختفت من الخريطة العالمية.
قد لا يكون الأمر سهلاً من دون وجود ترتيبات عالمية كبرى، لكن الترتيبات وحدها لا تعيد دولاً، ما لم تسعَ الشعوب إلى ذلك.
لديك تصويب أو ملاحظة؟ تفضل/ي بالتعرف إلى محررة القراء والتواصل معها
This work
by
SOT SY
is licensed under
CC BY-ND 4.0