× الرئيسية
ملفاتنا
المستشارة
النشرة البريدية
تَواصُل
من نحن
اختر محافظة لتصفح المقالات حلب
الرقة
الحسكة
دير الزور
اللاذقية
طرطوس
إدلب
حماة
حمص
دمشق
القنيطرة
درعا
السويداء
ريف دمشق

التجربة اليوغوسلافية: 5- السلام الهش

عقل بارد - شعوب وحروب 06-05-2021

انتهت الحرب أواخر العام 1995، عندما وافقت جميع الأطراف المعنية على اتفاقيات دايتون للسلام، تحت ضغط من الولايات المتحدة والمجتمع الدولي. خلفت المأساة اليوغوسلافية ظروفاً معيشية سيئة للغالبية العظمى من السكان، وبالنسبة لكثير من الناس أسوأ بكثير مما كانت عليه في العام 1985

الصورة: جزء من النصب التذكاري لضحايا سريبرينيتشا (Photo RNW.org - فليكر)

لم تكن يوغوسلافيا دولة ديمقراطية فعلياً، رغم وجود أشكال «الديمقراطية الشعبية»، والدستور، والهيئات التنفيذية، والقضائية وفق النظام الشيوعي.

في مرحلة «الاستقرار» كان العنف الفردي أو الجماعي في الحياة اليومية أمراً نادراً نسبيّاً، لكن ذلك لم يكن نابعاً من سيادة علاقات طبيعية قائمة على مبدأ المواطنة وسلطة القانون ين المكوّنات العرقية والقومية، وانخفاض أسباب الاختلاف والتوتر (التمييز العرقي كان حاضراً وموظّفاً بصورة منهجية) بقدر ما كان قائماً على السطوة الأمنية، والخوف العام من من أجهزة الدولة القمعية نفسها.

كان الجيش الوطني اليوغوسلافي يضم قرابة سبعين ألف ضابط، سبعون بالمئة منهم من الصرب وأبناء الجبل الأسود.

الغالبية العظمى من الضباط كانت ترى أن الجيش حارس للاتحاد اليوغوسلافي ولشيوعية البلاد، وللحزب الشيوعي نفسه، بقدر متساو.

عسكرة «المجتمعات» اليوغوسلافية

مع ظهور التيارات القومية توقعت السلطات هجمات معادية محتملة، كما توقعت أن تكون البوسنة والهرسك المصدر الرئيس لها، ركزّ الجيش وقيادته بالتالي على المنشآت العسكرية الكبيرة وخطوط الإمدادات هناك.

بالتوازي مع وجود الجيش، أُنشئت منظمة شبه عسكرية هي قوات الدفاع اﻹقليمية (Teritorijalna Odbrana)، وعُرفت اختصاراً بـ (TO). 
تم تنظيم هذه القوات في كل جمهورية من آلاف المدنيين الذين دُربوا وجُهزوا بما يضمن تعبئتهم بسرعة عند الضرورة.

كان لـTO هيكل قيادي خاص بها، ولديها سلاحها، ومصادر تزويد خاصة بها، وأذرعها القتالية منتشرة في البلاد. كان من نتائج وجودها أن العديد من الذكور اليوغوسلافيين قد تلقوا تدريباً وخبرةً عسكرية في زمن ما، فيما تلقى آخرون تدريباً عبر جهات خارجية (الولايات المتحدة وروسيا غالباً)، كما كانت مخزونات الأسلحة والذخيرة متوافرة، ويمكن الوصول بسهولة إليها. 

كان ظهور الجماعات المسلحة شبه العسكرية، أو المليشيات، أو العصابات، وأمراء الحرب المحليين، قد حدث إما بالتعاون الوثيق مع القيادات الكرواتية في الجيش اليوغسلافي (ردّاً على ظهور القوات اﻹقليمية TO ذات الطابع الصربي) أو بشكل أكثر استقلالية، بالتعاون مع جيش صرب البوسنة الذي لعب دوراً فاعلاً في التحول نحو العنف. 

فتحت سلسلة قرارات اتخذتها النخب السياسية المختلفة من قيادات الجيش اليوغسلافي في بلغراد وزغرب وسراييفو، الطريق أمام الحرب الأهلية، والحرب أولاً في سلوفينيا، ثم كرواتيا ثم البوسنة، وقاد هذا إلى نشاط متزايد للجماعات شبه العسكرية التي ارتكبت العديد من الفظائع الشديدة ضد مواطنين عزل.

البوسنة والهرسك

في أوائل آذار/ مارس 1992، تم إعلان البوسنة والهرسك الواقعة في وسط يوغسلافيا دولة مستقلة في عهد الرئيس البوسني علي عزت بيغوفيتش. 

بين آذار/ مارس، ونيسان/ أبريل هاجمت قوات الجيش الوطني اليوغسلافي والقوات الصربية مدناً قريبة من الحدود مع صربيا شمال البوسنة، ثم هاجمت القوات مدينة سراييفو، عاصمة الجمهورية البوسنية، وقد استمرت المعارك ثلاث سنوات ونصف حتى تشرين الثاني / نوفمبر من العام 1995.

عكس مسار الحرب التكوين العرقي والأيديولوجي المعقد لسكان يوغوسلافيا السابقة، وخاصّة في البوسنة والهرسك. شارك في القتال ما لا يقل عن عشرة فصائل مسلحة، وبتحالفات متغيرة. 

بطبيعة الحال قتل الكثير من المدنيين في الحرب، لكن معظم الضحايا لم يسقطوا من جراء نيران المعارك العسكرية المباشرة، بل بسبب التطهير العرقي وممارسات الإبادة الجماعية. وقد أدى التطهير العرقي إلى تدفقات كبيرة لللاجئين وتسبب في أضرار مادية هائلة.

الخوف والحقد والغضب ومشاعر سلبية كثيرة أخرى، هي مكونات «النطاق العاطفي» الذي يحكم العلاقات بين أبناء يوغوسلافيا السابقة حتى اليوم

قدّرت لجنة تابعة للأمم المتحدة أنه بحلول أواخر العام 1994 كان هناك حوالى مئتي ألف شخص لقوا مصرعهم، وتعرض ما يقارب خمسين ألفاً للتعذيب في ثمانمئة معسكر ومركز اعتقال واحتجاز في البوسنة. 

وثبت تورط ذكور من الأطراف الثلاثة (الكروات والصرب والبوسنيين) في اغتصاب نساء من «الجماعة / الجماعات المعادية». ويبدو أن الجانب الصربي قد «تفوّق» في هذا الإطار، واعتمد الاغتصاب طريقة ممنهجة للتطهير العرقي. 

مذبحة سريبرينيتشا / Srebrenica

وقعت واحدة من أفظع الأعمال الوحشية في الحرب بين 6 و 16 تموز / يوليو ، عندما هاجم جيش صرب البوسنة، تحت القيادة السياسية لـ رادوفان كاراجيتش، والقيادة العسكرية لـ راتكو ملاديتش «المنطقة الآمنة» لمدينة سريبرينيتشا الصغيرة، التي كانت واحدة من ست مناطق آمنة أعلنتها اﻷمم المتحدة في عموم يوغسلافيا السابقة.

كان عشرات الآلاف من البوسنيين قد فرّوا إلى هناك هرباً من التطهير العرقي في أماكن أخرى.

كانت المنطقة محمية رسمياً من قبل كتيبة صغيرة، وغير مسلحة كفايةً من جنود الأمم المتحدة الهولنديين (حوالى 400 جندياً من قوات حفظ السلام). لم تحاول الكتيبة منع الصرب من احتلال المنطقة، وأكد كثير من الجنود لاحقاً أنهم لم يتلقوا ما طلبوه من سلاح أو دعم جوي، رغم أنهم قد طلبوا ذلك من قيادة قوات التحالف الدولي الذي قادته أوروبا وقتها.

بعد سيطرته على المنطقة، قام جيش صرب البوسنة، بفصل الرجال عن النساء والأطفال، ونُقل الرجال إلى خارج المنطقة اﻵمنة، ثم أُعدم معظمهم (أكثر من سبعة آلاف رجل) بين 13 و 15 تموز / يوليو. 

استغرق الأمر بعض الوقت حتى وصلت أخبار عمليات الإعدام الجماعية إلى بقية العالم، واستغرق وقتاً أطول حتى أدرك العالم أن هذه كانت حالة إبادة جماعية واضحة ارتكبها جيش صرب البوسنة. 

في آب / أغسطس 1995، تقرر أن تتخذ الولايات المتحدة، وحلف شمال الأطلسي، والأمم المتحدة إجراءات أكثر صرامة ضد الصرب. 

ومنذ نهاية آب / أغسطس، تعرضت أهداف صربية حول سراييفو، وأماكن أخرى في البوسنة، للقصف المنهجي من طائرات الناتو. وأجبر هذا الصرب البوسنيين، والقيادة في صربيا، على التراجع وقبول مفاوضات السلام، والتوصل إلى اتفاق لإنهاء الحرب بعد ثلاث سنوات على بدئها.

ملاحظات

أولاً: مُنيت كل أطراف النزاع بخسائر في الأرواح والممتلكات والسلع. 

ثانياً: ساهمت اﻷطراف جميعها (عبر طرق مختلفة، وبنسبة مسؤولية متباينة) في التطورات التي عاشتها البلاد وأدّت إلى اندلاع الحرب، وتالياً ارتكب الجميع فظائع من الإبادات الجماعية والمذابح (وبنسب مختلفة). 

ثالثًا: لا يوجد في هذا الصراع جانب واحد، أو حزب، أو عرق، أو مجموعة سكانية، يمكن اعتبارها في الغالب من «الجناة»، أو من «الضحايا» فقط. على العكس: كان هناك ضمن كل فئة «جناة»، وهناك «ضحايا».

ومع ذلك، لم تكن جميع الأطراف متساوية في حجم المسؤولية، ولكنّ تحديد نسبة تدخل كل طرف وأثر أفعاله يقع ضمن مجالات تختلف هي اﻷخرى تبعاً للوثائق المتوافرة.

ومن المتفق عليه تقريباً، إنّ الحرب الفعلية بدأت من قبل جيش صرب البوسنة بمساعدة أكيدة وحاسمة من قبل صربيا نفسها، كما أنّ القوات الصربية ارتكبت عدداً كبيراً من جرائم الحرب، أكثر من أيّ من الأطراف الأخرى المشاركة في النزاع.

المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة

ظل المجتمع الدولي ممثلاً بالأمم المتحدة، واﻷطراف الفاعلة في النزاع قرابة ثلاث سنوات، يغض الطرف عن الحرب والفظائع التي تُرتكب في البوسنة والهرسك، واقتصرت الجهود على تدخلات ضعيفة لا أثر لها فعلياً: مفاوضات دولية لا نهاية لها، وحظر أسلحة غير فعال، وبعض المساعدات الإنسانية، كما كانت لقوات حفظ السلام البرية التابعة للأمم المتحدة صلاحيات محدودة للغاية.

لقد انتهت الحرب الأهلية اليوغوسلافية، لكن السلام لا يزال هشّاً، ويمكن ﻷي حادثة عارضة أو مقصودة، أن تتسبب بإشعال فتيل حرب أخرى

في شباط / فبراير 1993 ، أنشأ مجلس الأمن المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة، ليكون مقرها في لاهاي (يتضمن الرابط المرفق جزءً من المحاكمات)، وهي أوّل محكمة جنائية دولية منذ محاكمات نورمبرغ في أعقاب الحرب العالمية الثانية.

أصدر المدعون العامون لوائح اتهام ضد أكثر من مئة وستين مشتبهاً به، بما في ذلك معظم الشخصيات الرئيسية المسؤولة عن الكارثة اليوغوسلافية. وكان سلوبودان ميلوسيفيتش أول رئيس دولة يُحاكم متهماً بارتكاب جرائم حرب وإبادة جماعية (توفي قبل صدور الحكم). 

في العام 2017 أنهت المحكمة أعمالها بشكل تام، بعد أكثر من عشرة آلاف جلسة، استمعت فيها إلى شهادات من قرابة خمسة آلاف شخص، وحكمت على 90 شخصا في جرائم، منها الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم المرتكبة ضد الإنسانية.

السلام الهش

انتهت الحرب أواخر العام 1995، عندما وافقت جميع الأطراف المعنية على اتفاقيات دايتون للسلام، تحت ضغط من الولايات المتحدة والمجتمع الدولي. 

تشكّل اتفاقات دايتون للسلام أساس الحالة الحالية للبوسنة والهرسك، التي تتكون اليوم من كيانين، جمهورية صرب البوسنة على 49 في المئة من الأراضي، وكيان مشترك بين الكروات، ومسلمي البوسنة على النسبة المتبقية.

خلفت المأساة اليوغوسلافية ظروفاً معيشية سيئة للغالبية العظمى من السكان، وبالنسبة لكثير من الناس كانت أسوأ بكثير مما كانت عليه في عام 1985. 

أدى تدمير الاتحاد القديم إلى تشكل سبع دول جديدة، سلوفينيا، وكرواتيا، وصربيا، ومونتينيغرو (الجبل الأسود)، ومقدونيا، وكوسوفو، وإقليم واحد شديد الانقسام، هو دولة البوسنة والهرسك.

في أثناء الهجوم العسكري الكرواتي الثاني على الجيوب الصربية في كرواتيا في آب / أغسطس 1995، تم بث لقطات تلفزيونية لمدنيين صرب هاربين. أظهرت إحداها عائلة فلاح صربي في حالة فرار، ووجهه متجهم الوجه وهو يقود جراره، ويسحب عربة تحتوي على عدد قليل من النساء والأطفال القلقين بشكل واضح، وبعض السلع المنزلية. كانوا يسارعون في طريق ضيق على طول غابة.

وبينما كانت تقف أمام منزلها على جانب الطريق، صرخت امرأة كرواتية في منتصف العمر بالشتائم بأعلى صوتها، وألقت حجارة كبيرة على اللاجئين العابرين.

هذه الحادثة تلخص أكبر ضرر على الإطلاق: بدلاً من يوغوسلافيا متعددة الأعراق والثقافات، أصبح معظم اليوغوسلافيين محبوسين داخل مجموعاتهم العرقية القومية وأراضيهم الصغيرة، ومحاصرين من جميع الجهات عن طريق الحدود الفاصلة بين تلك الدويلات.

ومع ذكريات مريرة، فإن الخوف والحقد والغضب ومشاعر سلبية كثيرة أخرى، هي مكونات «النطاق العاطفي» الذي يحكم العلاقات بين أبناء يوغوسلافيا السابقة حتى اليوم. 

هذا الضرر، سيستغرق إصلاحه، إذا أصلح أصلاً، أجيالاً متعددة.

لقد انتهت الحرب الأهلية اليوغوسلافية، لكن السلام لا يزال هشّاً، ويمكن ﻷي حادثة عارضة أو مقصودة، أن تتسبب بإشعال فتيل حرب أخرى!


Share!

لا يتبنى «صوت سوري» أي توجه مسيس للملف السوري ولا تقف وراءه أي جهة سياسية.
نحن نراهن على دعمك لنا في الوصول إلى جميع السوريين والسوريات.

إذا رأيت أن خطابنا يستحق الوصول انشري / انشر هذا المقال من فضلك

لديك تصويب أو ملاحظة؟ تفضل/ي بالتعرف إلى محررة القراء والتواصل معها