× الرئيسية
ملفاتنا
المستشارة
النشرة البريدية
تَواصُل
من نحن
اختر محافظة لتصفح المقالات حلب
الرقة
الحسكة
دير الزور
اللاذقية
طرطوس
إدلب
حماة
حمص
دمشق
القنيطرة
درعا
السويداء
ريف دمشق

اتفاقية دايتون: 1- هل أيّ سلام أفضل من أي حرب؟

عقل بارد - شعوب وحروب 19-05-2021

كنا قد توقفنا بشكل مفصل عند تجربة يوغوسلافيا السابقة في حربها التي انتهت إلى اختفائها من الوجود، بعد قرابة نصف قرن من تأسيسها في منطقة كانت مفصلية في اندلاع الحربين العالميتين اﻷولى والثانية، أي منطقة البلقان. لكننا لم نتوقف بشكل مفصل مع الممر الذي عبرت منه بقايا يوغوسلافيا إلى السلم، بغاية تخصيص حلقات خاصة لهذا «الممر»، أي اتفاق دايتون

الصورة: توقيع اتفاق السلام في باريس، كانون الأول 1995 (NATO - فليكر)

قبل ستة وعشرين عاماً، وفي قاعدة للقوات الجوية الأميركية في أوهايو، في الوﻻيات المتحدة، أُعلن انتهاء أكثر الحروب تدميراً في القارة الأوروبية منذ العام 1945، عقب التوقيع بالأحرف الأولى على اتفاقية سُمّيت نسبةً إلى بلدة دايتون اﻷميركية (وُقع الاتفاق النهائي في باريس بعد شهرين).

توقيع دايتون، جاء بعد حرب خلفت أكثر من مئة ألف قتيل، وسببت دماراً هائلاً، وشردت الملايين.

بعد التوقيع، قال الزعيم البوسني علي عزت بيغوفيتش: «قد لا يكون سلاماً عادلاً، بيد أنه أكثر عدلاً من استمرار الحرب، وفي الوضع الراهن، وتبعاً لوضع العالم الآن، لا يمكن تحقيق سلام أفضل».

كانت رؤية بيغوفيتش واقعية، فالحاجة إلى السلام ولو بأشكال ليست مثالية تصبح في كثير من النزاعات الهدف الأكثر أهمية.

«دايتون» التي مضى عل توقيعها أكثر من ربع قرن خلقت وضعاً غريباً للبوسنة تحديداً، إذ إنها حتى اﻵن لا تزال تمثّل ما يشبه محمية خاضعة بالكامل إلى المجتمع الدولي.

فتش عن المصالح الدولية

كانت اتفاقية دايتون في الحقيقة تجميع خطط سلام متعددة طُرحت سابقاً من قبل مجموعات مختلفة من الفاعلين الدوليين، وحاولوا تنفيذها في السنوات السابقة. 

سبب النجاح في تشرين الثاني / نوفمبر 1995 هو أن جميع الجهات الدولية الفاعلة - الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وروسيا - اتفقت أخيراً، ما أدى إلى توافق الأطراف المحلية المتحاربة، خلافاً للمحاولات التي سبقت «دايتون»، إذ كانت هناك دائماً إغراءات تقدم لهذا الطرف أو ذاك من أجل إطالة أمد الصراع، على أمل فرض صفقة أفضل بشروط أقوى لهذا الطرف ومن وراءه، ما ولّد مماطلات مستمرّة وسعياً غير مثمر. (هل يمكن إسقاط هذا الحال على المشهد السوري في الأعوام الأخيرة؟ فلنلاحظ مثلاً المفاوضات الرتيبة بين دمشق وقوى المعارضة حول الدستور). أما 

حين صار إنهاء النزاع ضرورة للأطراف الدولية، فقد بدأت تباشير انتهاء الحرب.

بعد الحرب يُصنع السلام، هكذا تقول الفرضية المنطقية، لكن لا يمكن التوصل إلى سلامٍ مُرضٍ لجميع الأطراف دائماً، خاصة إذا كانت موازين القوى غير راجحة بشكل حاسم لطرف ما. وعلى الأرجح، يكون البديل «سلاماً هشّاً»، واستقراراً مرحليّاً. 

وبعد أن صمتت أصوات المدافع في البوسنة، بدأت المهمة الصعبة لإعادة بناء بلد مزقته الحرب. و«مزقته» هنا ليست مجازية، فالحرب أفضت إلى وجود ثلاثة جيوش، وثلاث عملات، وثلاثة أشباه دول داخل الإقليم، دخلت اثنتان منها بالفعل في زواج قسري (كرواتيا وصربيا). 

على مدار العقود التي تلت ذلك، أعيد بناء البنية التحتية في البوسنة بتمويل من الاتحاد الأوروبي، بحيث يتعين على المرء الآن البحث عن ندوب الحرب في سراييفو الصاخبة.

قصة إعادة البناء السياسي والمصالحة في البوسنة (كما في مناطق أخرى حول العالم)، أكثر تعقيداً من مجرد توقيع اتفاق عسكري لفض النزاع. لقد سارت عملية البناء السياسي ببطء شديد، لأن العديد من القادة كانوا يرون أن السلام من دون إنهاء عملي لصيغة اللاحرب واللاسلم، هو استمرار للحرب بوسائل أخرى. 

السبب الذي أدى إلى تكلل المفاوضات بتوقيع اتفاق دايتون هو أن جميع الجهات الدولية الفاعلة اتفقت أخيراً، ما أدى إلى توافق الأطراف المحلية المتحاربة

في التالي من هذه المقالة (ومقالات لاحقة أخرى)  نستعيد بشيء من التفصيل، سيرة الاتفاقية والظروف التي أدت إلى توقيعها، ونسبق ذلك بمزيد من التفاصيل عن الوضع داخل يوغوسلافيا السابقة نفسها زمن الحرب، ونتناول مواقف وأدوار اللاعبين الدوليين أثناء الحرب، وكذلك خلال المفاوضات، ثم أهم التحديات التي واجهها الفريق المفاوض بقيادة اﻷميركي ريتشارد هولبروك، كبير المفاوضين الذي أشرف على تلك المحادثات.

هدف دايتون اﻷساسي

كان هدف الاتفاق الأساسي إقامة نظام مراقبة دوليّة مؤقت للانتشار العسكري لجميع اﻷطراف على الأرض، إلى جانب بناء دولة جديدة وترسيخ السلام في المنطقة، ما جعل الدولة البوسنية الجديدة تعتمد بشكل كبير على الإشراف الدولي، وقد تجلى ذلك بوضوح في ملاحق اتفاقية دايتون اﻷحد عشر، على أن ينتهي ذلك الإشراف مع تنظيم أول انتخابات عامة في أيلول / سبتمبر من العام 1996، ثم تتحول صناعة القرار تدريجيًّا إلى السلطات المركزية البوسنية. 

كذلك، كان على المنظمات الدولية أن تراقب القوات المسلحة والمؤسسات الحكومية بشكل واسع، وأن يتم تعيين المسؤولين من طرف جهة خارجية، لفترة تمتد ست سنوات من تاريخ توقيع دايتون. 

كل أبعاد التدخل الدولي هذه تم تدوينها في دستور البوسنة، وفي وثائق عمليات إعادة البناء التي تلت الحرب. وهكذا، كانت قطاعات الجيش، والسياسة، والقضاء، والاقتصاد، خاضعة لرقابة خارجية مباشرة من قِبل مراقبين عيَّنتهم مختلف المنظمات الدولية، مثل الأمم المتحدة، والمجلس الأوروبي، ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا، وصندوق النقد الدولي.

الطريق إلى دايتون

إثر تفكك الاتحاد اليوغوسلافي عرض المجتمع الدولي الاعتراف بوضع الدولة المستقلة ذات السيادة لكل من الجمهوريات اليوغوسلافية السابقة، شريطة إجراء استفتاء شرعي يكون القرار فيه للشعب. 

صوَّت أغلب مواطني البوسنة والهرسك في استفتاء على الاستقلال نُظِّم يومي 29 شباط و1 آذار / مارس، من العام 1992. 

شارك في الاستفتاء 63,4% من مجموع الناخبين المؤهَّلين، صوَّت 99,7% منهم لصالح الاستقلال. 

في الثالث من آذار / مارس 1992 أعلن رئيس مجلس الرئاسة في البوسنة والهرسك، علي عزت بيغوفيتش استقلال جمهورية البوسنة والهرسك (Republic of Bosnia and Herzegovina)، ثم صادق البرلمان على ذلك. 

في السادس من نيسان / أبريل، اعترفت الولايات المتحدة الأميركية، ودول الاتحاد الاقتصادي الأوروبي باستقلال دولة البوسنة والهرسك، التي أصبحت عضوًا في الأمم المتحدة في 22 أيار / مايو من العام نفسه تحت الاسم الدستوري: جمهورية البوسنة والهرسك.

وفي خطوة استباقية لنتائج استفتاء الاستقلال في البوسنة، أصدر رئيس يوغوسلافيا الاتحادية (المشكَّلة من جمهوريتي صربيا والجبل الأسود) سلوبودان ميلوسيفيتش في كانون الثاني / يناير العام 1992 قراراً سريّاً يقضي بنقل كل ضباط الجيش من القومية الصربية المولودين في البوسنة والهرسك، إلى جيش جمهورية صربيا الاشتراكية (الاسم الرسمي لها)، وإعادة تجنيدهم في جيش صرب البوسنة الجديد.

مسيرة إعادة البناء السياسي والمصالحة في البوسنة والهرسك، كما في مناطق أخرى حول العالم، أكثر تعقيداً من مجرد توقيع اتفاق عسكري لفض النزاع

تشير بعض المصادر (مثل كتاب The Three Yugoslavias: State-Building and Legitimation) إلى أنّ العدوان الذي وقع بعد ذلك على البوسنة، تم التحضير له بعناية بين الرئيسين الكرواتي، والصربي، بغية احتلال وتقاسم البوسنة والهرسك، وفقاً لما عُرف باسم «اتفاقيات كارادجوردج وغراتس»، كما أنهما خطَّطا لعمليات عسكرية مُتزامنة، ونجحا في احتلال أكثر من ثلثي البوسنة والهرسك في غضون الأشهر الأولى من العدوان.

كذلك، تحركت قوات حكومة يوغوسلافيا، وقوات جيش جمهورية الجبل الأسود، بالإضافة إلى صرب البوسنة المدعومين من قبل حكومة صربيا والجيش الشعبي اليوغسلافي، وشُن عدوان واسع على جمهورية البوسنة والهرسك.

هل شهدت البوسنة حرباً أهلية؟

في بدايات تلك الحرب، قاتلت قوات الجيش الشعبي اليوغوسلافي بشكل مباشر إلى جانب صرب البوسنة، وبعد الخامس من أيار / مايو 1992 كان على صربيا سحب جنودها من الدولة البوسنية - التي كانت قد نالت اعترافاً دولياً - تحت ضغط المجتمع الدولي. 

بعد ذلك التاريخ، تسلّمَ الجيش الشعبي اليوغوسلافي مقاليد قيادة ما يُقدَّر بألف جندي من القوات الصربية المدربة، وبالتالي أنشأت صربيا فعليًّا جيش صرب البوسنة.

بين نيسان / أبريل 1992 ونهايات العام 1994، تعاطت الولايات المتحدة، ومنظمة الأمم المتحدة، والاتحاد الأوروبي مع العدوان على البوسنة والهرسك باعتباره قضية أوروبية داخلية، وتم تجاهل كون البوسنة عضواً في الأمم المتحدة.

في تلك الحقبة، صنّفت الدول الغربية الصراع على أنه حرب أهلية، «لا ضحية فيها ولا معتدٍ»، وتم التعامل مع أطراف الحرب بصفتهم «فصائل متحاربة». 

المشكلة هنا، أن البوسنة التي كانت جزءاً من يوغوسلافيا، خرجت من ذلك الاتحاد بشكل قانوني، ووفق اﻷصول الدستورية واﻹجرائية المرعية في حالات كهذه، لكن هذا الخروج لم يلق موافقة اﻷطراف اﻷخرى، التي رأت فيه خروجاً وانقساماً عن دولة هي اﻷخرى معترف بها قانونياً من قبل اﻷمم المتحدة ودول العالم ﻷكثر من ثمانية عقود. عدا عن أنّ ذلك الخروج خلق وضعية جديدة للدولة اليوغوسلافية وأجزائها الجديدة (دولها الجديدة) تغيّرت فيها لا الحدود السياسية فقط، بل كيان الدولة ككل. 

تظهر هنا جدلية معقدة، فإذا اعتبرنا البوسنة والهرسك وفق القانون الدولي دولة، وهي كذلك بحكم الاعتراف بها، فإن ما كان يجري هو فعلاً عدوان من قبل دولتين أخريتين مجاورتين لها.

أما إذا اعتبرنا البوسنة والهرسك جزءاً من يوغوسلافيا السابقة، وهي كذلك حتى تاريخ إجراء الاستفتاء على الاستقلال، فإن ما جرى هناك يمكن تصنيفه على أنه حرب أهلية، لكن الدولة اليوغوسلافية لم تعد موجودة أساساً بعد الاعترافات الدولية اﻷوروبية، واﻷميركية، بجمهورياتها على أنها كيانات سياسية ذات حدود رسمية واستقلالية.

 يتبع


Share!

لا يتبنى «صوت سوري» أي توجه مسيس للملف السوري ولا تقف وراءه أي جهة سياسية.
نحن نراهن على دعمك لنا في الوصول إلى جميع السوريين والسوريات.

إذا رأيت أن خطابنا يستحق الوصول انشري / انشر هذا المقال من فضلك

لديك تصويب أو ملاحظة؟ تفضل/ي بالتعرف إلى محررة القراء والتواصل معها