فرات زيزفون
الصورة: (حلب 2005 / Zouhair Ghazzal - فليكر)
لكل مدينة، أو قرية، أو حتى حارة تفاصيل مميزة، سمات يستطيع من عاش فيها أن يتذكرها، وأن يصفها للآخرين، سواء كانت شكل الجدران، أو ألوانها، أو أنواع الأشجار المزروعة فيها، أو حتى طبائع سكانها.
يمكن أن تتحقق هذه الفرضية في معظم المناطق تقريباً، باستثناء مناطق العشوائيات، تلك البيوت التي زحفت نحو مراكز المدن، وتزاحم فيها سكان من مختلف المشارب والمناطق والانتماءات.
في مناطق العشوائيات، لا يمكن خلق ذاكرة واضحة المعالم عن الحي، وامتداداته، كما لا يمكن إيجاد الكثير من نقاط التشابه بين أحياء تلك المناطق وحاراتها، إذ تختلف كل واحدة عن الأخرى، اختلافات قد تكون جذرية في كثير من الأحيان.
لا إحصاءات دقيقة حول نسبة مناطق العشوائيات في سوريا بشكل عام، ولكن تقديرات تقريبية تفيد بأنها تصل في المناطق الريفية إلى نحو 20 بالمئة من مجمل مناطق السكن، وقد تصل إلى نحو 40 بالمئة في المدن الكبيرة، ما قد يعطي صورة أعمق بعد المقارنة بين الكثافة السكانية في المناطق المنظمة، ونظيرتها في المناطق العشوائية ذات الكثافة المرتفعة حول نسبة سكان سوريا الذين عاشوا، ويعيشون في تلك المناطق.
مستقر الهاربين.. والحالمين
في حارتنا الشعبية، حيث ولدتُ وترعرعتُ لمستُ تناقضات غريبة. ثمة دفءٌ ممزوج بالألم يمكن أن يظهر بسهولة على جباه سكان تلك المناطق، وعلى الجدران شبه المنتصبة لمنازلها.
ما لمسته في حارتنا من تناقضات وتقاطعات مشتركة، لمسته في مناطق عشوائية أخرى في مدينتي، وعشوائيّات في مدن ومحافظات أخرى، الأمر الذي يدفعني إلى الحديث عنها بثقة واحد من ملايين الذين عاشوا في تلك المناطق.
تمتاز مناطق العشوائيات ببساطة معقدة، تركيبة «هندسية» مشوهة أنتجت بالمحصلة شكلاً عمرانياً اتفق الجميع عليه بشكل ضمني.
في تلك المناطق لا مساحات خضراء، أو حدائق، إلا في بعض الحالات النادرة. لا أرصفة مستوية، أو متشابهة، فلكل منزل رصيفه الخاص، الذي يمتد إلى الشارع تارة، ويقترب من الجدار تارة أخرى، يعلو تارة وينخفض مرات أخرى.
مثلما حمل القادمون همومهم وأحزانهم، حملوا معهم طباعهم وتقاليدهم، لتختلط بهموم وتقاليد الجيران، وتستقر في النهاية مشكلة خليطاً لا يمكن تحديد سماته، فسكان تلك المناطق ليسوا من الريف، وليسوا من المدينة
المنازل في مناطق العشوائيات تمتد بشكل أفقي، ترتص جدران المنازل من دون أي فراغ فاصل بينها، تتصل الأسطح، وتختلف ارتفاعاتها، كما تختلف ارتفاعات أرضيات المنازل نفسها، قد تجد منزلاً تحتاج النزول درجتين لدخوله، يجاوره منزل بدرجتين صعوداً، هذا الأمر هو محصلة بناء متقطع على فترات زمنية متباعدة، فالمنزل المنخفض هو الأقدم، والمرتفع جاء بعد سنوات طويلة من عمليات الردم المتتالية التي شهدتها شوارع الحي، وهكذا.
فلنمضِ معاً نحو منزل في تلك العشوائيات، واحد لا على التعيين: باب المنزل في الوسط، على يمينه شباك صغير مرتفع، وكذا على يساره، وتعلو النافذتين شرفتان صغيرتان، أو تمتد قضبان الحديد من السقف جاهزة لصب الشرفتين.
فوق الباب الحديدي شرفة صغيرة أيضاً منخفضة، ناجمة عن مساحة وُجدت عند التفاف الدرج الذي يربط الطابق الأرضي بالسطح، أو ما يعرف شعبياً باسم «قرص الدرج».
في المنزل الواحد أيضاً، تختلف ارتفاعات الغرف، وتتفاوت مقاسات النوافذ والأبواب، كما تختلف أنواع الحجارة التي بنيت منها تلك الغرف، وتختلف ألوانها أيضاً، سواء بسبب الظروف المادية التي منعت سكانها من إشادتها دفعة واحدة، أو بسبب القوانين التي تكافح السكن العشوائي، ما يفرض بدوره عمليات بناء تجري خلسة، خوفاً من أن ينتهي المطاف بهدمها من قبل البلدية.
تشكلت المناطق العشوائية نتيجة أزمات متلاحقة، دفعت سكان مناطق بعيدة، أو أرياف محيطة بالمدينة إلى الزحف نحو المدن.
ومثلما حمل القادمون همومهم وأحزانهم، حملوا معهم طباعهم وتقاليدهم، لتختلط بهموم وتقاليد الجيران، وتستقر في النهاية مشكلة خليطاً لا يمكن تحديد سماته، فسكان تلك المناطق ليسوا من الريف، وليسوا من المدينة، يعيشون في منازل لا تشبه تلك التي كبروا فيها في الأرياف، ولا تشبه السمة العمرانية للمدينة.
في مقابل التنوع الكبير للسكان في بعض الأحياء، هناك أحياء أخرى تقطنها عائلة كبيرة واحدة، إذ يعيش أبناء العمومة، والإخوة في منازل متجاورة، ما يزيد التناقض بين كل حارة وأخرى.
شتاء، تفيض شوارع المناطق العشوائية بمياه الأمطار التي تغمر أيضاً بعض المنازل المنخفضة، كما يفيض الصرف الصحي، أو ما يشبه الصرف الصحي الذي أنشئ بدوره على مراحل عديدة، ما حوّله إلى شبكة معقدة، تتباين أقطار أنابيبها، وتشعباتها، ونوعياتها بين تقاطع وآخر.
التعقيد يمتد أيضاً إلى مختلف خدمات البنية التحتية الأخرى، إذ تتشابك أنابيب مياه الشرب، وتتقاطع في مواقع عديدة مع أنابيب الصرف الصحي، وتتداخل أسلاك التيار الكهربائي، وأسلاك الهواتف الأرضية فيما بينها، ممتدة من جدار إلى جدار، ومن سطح إلى آخر.
في حارتنا كانت بعض أعمدة الكهرباء تمتد إلى خارج الرصيف، وبعضها الآخر يتداخل مع شرفات المنازل.
كان خط الهاتف الذي يصل إلى منزلنا يتجاوز حارتين، ويمر من فوق سبعة منازل، الأمر الذي يتطلب في حال وجود عطل، وما أكثر الأعطال، دخول جميع تلك المنازل والصعود إلى أسطحها بحثاً عنه لإصلاحه.
حياة على هامش الزمن
معظم شوارع العشوائيات لا تصلها الإنارة الحكومية، ما يدفع السكان إلى إنارة شوارعهم بأنفسهم، عن طريق وضع لمبات أمام منازلهم، وأسفل شرفاتهم، ما يخلق - مع تباين نوعية ولون الإضاءة، والامتداد غير المنظم للجدران، وتفاوت مقاساتها - حالة من الوحشة للغريب الذي يزور المكان، هذه الوحشة التي ألفها السكان وتحولت مع مرور الوقت إلى طمأنينة!
شتاء تفيض الشوارع بمياه الأمطار التي تغمر أيضاً بعض المنازل المنخفضة، كما يفيض الصرف الصحي، أو ما يشبه الصرف الصحي الذي أنشئ على مراحل. وتتقاطع أنابيب مياه الشرب في مواقع عدة مع أنابيب الصرف الصحي
عند انقطاع الكهرباء يصبح المرور في شوارع تلك المناطق، لمن لم يعش فيها، مغامرة مرعبة تملؤها مخاطر الحفر التي تنتشر في الشوارع، وبينها فتحات للصرف الصحي، وتحيط بها مخاوف الخوض في المجهول. يمكن من يراقب المشهد من خارج الحارة أن يلاحظ العتمة وهي تبتلع من يدخل الحي، فيغيب مع أولى خطواته.
إن دخلت منطقة عشوائية صباحاً، تمكنك ملاحظة الغبار والضجيج يغمران الحي، تتجاور ورشٌ صغيرة ودكاكين «السمانة» وحتى بعض المصانع البدائية الصغيرة.
الأطفال يلعبون في الشارع، وكثير من السكان يجلسون على أرصفة منازلهم، أو في ضيافة أحد أصحاب الدكاكين التي تحولت بمرور الزمن إلى ما يشبه المضافة.
في أحياء السكن العشوائي تمكن ملاحظة الفروق الطبقية بوضوح عن طريق مراقبة الأرصفة، فالرصيف المبلّط اللامع الممتد أمام منزل ما يكشف بطريقة مباشرة أن صاحب هذا المنزل شخص مقتدر مقارنة بجيرانه، إلى حد أنه بلّط رصيفه بدلاً من صبّ طبقة رقيقة من الإسمنت، كما يفعل معظم الآخرين، أو من خلال شكل باب المنزل الحديدي وضخامته، أو حتى من خلال الألوان الزاهية التي تضج بها بعض الجدران.
مع نمو مناطق السكن العشوائي وزيادة الطلب على السكن، ظهرت حركات عمرانية جديدة، وراحت تظهر المباني الشاقولية المتعددة الطبقات في بعض الأحياء، ما خلق بدوره مشهداً غريباً تنتصب فيه بعض المباني المرتفعة تجاورها منازل حجرية قديمة متباينة الارتفاعات.
إن سألت أي شخص عاش في منطقة عشوائية عن ذكرياته، أعتقد أنه سيفيض بكم كبير من الذكريات المتناقضة، الدافئة بعض الأحيان، والعصيبة في أحيان أخرى، قد يخبرك عن السهرات على الأسطح، أو عن دالية أو شجرة كان يرميها بالحجارة لتمطر عليه ثماراً، كما سيخبرك بحنين عن حجارة منزله التي يعرفها حجراً حجراً، وعن المياه المقطوعة، والصرف الصحي الدائم التعطل والفيضان.
سيخبرك عن شتاء شديد البرودة، وعن صيف ساخن جداً. سيخبرك عن الحفر التي يحفظها، ويستطيع أن يعدها مغمض العينين، أو عن بائع الفول والسحلب الذي يجوب الحارة طوال اليوم. سيخبرك عن السرافيس والباصات العديدة التي يجب عليه أن يستقلها كي يصل إلى مكان قريب من حيّه، وعن الفوارق الكبيرة بين الحي الذي يقطنه، والمدينة التي «ينتمي» إليها الحي.
سيخبرك الكثير عن سكان تلك الأحياء الذين جاؤوا إليها يحملون الهموم والأحلام، وتاهوا في زواريبها المتشعبة في منطقة على هامش الزمن.