× الرئيسية
ملفاتنا
المستشارة
النشرة البريدية
تَواصُل
من نحن
اختر محافظة لتصفح المقالات حلب
الرقة
الحسكة
دير الزور
اللاذقية
طرطوس
إدلب
حماة
حمص
دمشق
القنيطرة
درعا
السويداء
ريف دمشق

السويداء-مينسك-درعا: فصول من «الملائح الحورانية»

حكاياتنا - ملح 25-05-2022

كنا خمسة سوريين «حوارنة» في سيارة «فان» مغلقة بالقرب من مدينة سمولينسك، نقصد الحدود البيلاروسية على درب لجوئنا غير الشرعي إلى أوروبا. بدأنا رحلتنا بذكريات السهل والجبل، وكالعادة ما إن يذكر أحد اسم عائلته أو قريته حتى تنهال عليه الأسئلة من الجميع: «بتعرف فلان؟»، «وين صار؟»، «بعدو عايش؟»

الصورة: (TRTWorld - تويتر)

رغم اعترافي بكل مضارها الصحية أجد في السيجارة «شيئاً من الحياة وأشياء من السعادة» في هذا الزمن، وهذه البقعة من الأرض. أنا الذي ابتعد ما استطاع عن الإدمان بكل أشكاله، أعترف بأن السيجارة رافقت أجمل لحظاتي وأكثرها فرحاً، وارتبطت بأماكن وأشخاص حفروا عميقاً في الذاكرة في هذا الزمن المالح. 

كثيراً ما حملتني سجائري إلى أماكن وأزمنة أخرى تلتقي فيها نهايات الألم مع بدايات الخلاص، حتى بتُّ حائراً في أيها الأحب والأقرب: أهي سيجارة الزنزانة؟ أم المهجع؟ تركيا؟ أم بيلاروسيا؟ أو لعلها سيجارة ما قبل وليمة «الملاحية» في السويداء، أو بعد «الملاحي» في درعا.. وأبقى على أمل، بل يقين بأن السيجارة الأطيب لم أدخنها بعد.

أشعل الآن واحدةً فتحملني إلى تلك الرحلة. لا أدري هل جمعتنا المصادفة؟ أم فعلها القدر؟ كنا خمسة سوريين «حوارنة» في سيارة «فان» مغلقة بالقرب من مدينة سمولينسك، نقصد الحدود البيلاروسية على درب لجوئنا غير الشرعي إلى أوروبا. بدأت رحلتنا بذكريات السهل والجبل، وكالعادة ما إن يذكر أحد اسم عائلته أو قريته حتى تنهال عليه الأسئلة من الجميع: «بتعرف فلان؟»، «وين صار؟»، «بعدو عايش؟»، ليعقب كل سؤالٍ خبر، أو قصة. 

ثماني ساعات من الأحاديث لم يوقفها إلا توقف السيارة معلنة بداية المسير عبر الغابة، ومنذ اللحظة الأولى لترجلنا أمسك محمود علبة السجائر قائلاً: «هاي حمرا طويلة، دوا للمشتاق». ضحكت وتناولت واحدة، ثم قصصت عليهم إحدى حكاياتي:

بعد ثلاثة أشهر من عذابات التوقيف في أكثر من جهة أمنية أطلقوا سراحي، وقبل معرفتي بقرار سوقي إلى الخدمة العسكرية فكَّ أحدهم قيدي، ونقلني عِبر الأدراج صعوداً إلى «غرفة الترحيل». 

حين نزع العصبة عن عينيّ ودفعني إلى الداخل كانت جملة «الحمد لله عالسلامة» الدليل الدامغ على نهاية محنتي، أو اقتراب نهايتها.

قبل أن أسترد أنفاسي اقترب مني زميل الزنزانة الأخيرة وكنيته «المحاميد»، أشعل لي سيجارة، وراح يخفف عني.. وعندما نطقت باسمي ونسبي انهال عليَّ بالأسئلة.

ساعة من الحديث أعادت إليّ شيئاً من الحياة، وأشياء من الماضي الجميل، لم يعدني إليها بعد الترحيل سوى صوت «الحريري» في المهجع الخامس من مدرسة الخدمات الطبية: «هلا بابن السويدا...تاع اشرب شاي بلد»..

دون أي مقدمات عانقته وسط استغراب الجميع. أجلسني قربه وقدم لي سيجارة، ثم وضع إبريق الشاي الأسود على النار، وقبل أن نُكمل كأسنا الثانية وساعتنا الأولى بدأنا التخطيط للهرب من الخدمة العسكرية!

كان البرد ينخر أجسادنا. جمعنا الأغصان اليابسة لإشعالها، وسرى شيء من الدفء ليوقظ الحنين ويعلو صوت «خليفة» بالغناء: «من مفرق جاسم للصنمين ... حاجه تهلي الدمع يا عين»

اشتدت المعارك في المناطق المحاذية لمدرسة الخدمات، وكان علينا أن نشارك مرغمين، فصرت و«الحريري» يحرس أحدنا الآخر، حتى جاءت ساعة الفرج فانطلقنا معاً بمساعدة قريبي إلى مدينة جرمانا. خلال ساعات تجمعت لدينا بضع بطاقات شخصية اخترنا منها الأكثر شبهاً لكل منا، وكان على صديقي أن يتقن بالإضافة الى اسمه ونسبه ومعلومات هويته الجديدة بعض الكلمات والجمل من لهجتنا، ليكون عبور الحواجز آمناً، لكنهُ أعجزنا، استسلم المعلمون، وانهمرت الدموع ضحكاً من لهجة «الحريري» الهجينة. اقترحنا عليه أن يضع بعض القطن في فمه، ويدعي آلاماً في الأسنان حرصاً على سكوته.

عبرنا ثمانية حواجز، ووصلنا السويداء. ووسط الهرج، والفرح، والدموع، وقبل أن يمتد منسف «الملاحية» أشعل الحريري سيجارة، وناولني إياها قائلاً: «شوف ما أطيبها».

_ _

يقاطعني أحد رفاق الرحلة الأوروبية محتجاً: «ذكرتنا بالملاحي يا رجال، والله روحي تنشلع بس أتذكرها». 

  • شو الفرق بين الملاحي والملاحية؟
  • الفرق بسيط؛ الملاحي ناكلها عند أم خليفة بذرعا، والملاحية عند أم خليل بالسويدا.
  • المهم السمن العربي.
  • لا والله المهم هو الكبة.
  • ما حزرتو، الطيبة بالكثي. (لبن يجفف ويُخزن لاستخدامه لاحقاً في الطبخ، يُسمى أيضاً: الجميد
  • والله عفّشوا كل أغراض الدار إلا الكثي ما عرفوه هو للأكل ولا للهوش.

_ _

وصلنا الشريط الشائك الذي يفصلنا عن بيلاروسيا، وبدأنا نبحث عن التربة الأسهل لحفر نفق العبور، ثم رحنا نتسابق في الحفر والتعزيل.

سألني الغزاوي: «كيف لقيت هذا المكان؟ والله إنه سهل الحفر».

  • الإشارات بتدلك على مكان الدفين، خبرة عمر. 
  • لازم الخبير من عندنا والإشارة من عندكم، هاي العادة. 
  • موافق والنسبة ثلث بثلث.
  • ولمين الثلث الثالث؟
  • لصاحب الأرض.
  • والله مابو قسّام دخل الجنة. 

_ _

عبرنا النفق بهمة ونشاط «البحيشة» (تسمية محلية تطلق على المنقبين عن الكنوز الدفينة)، وبذكريات «البحش» الذي يكثر في حوران، ثم جلسنا في انتظار المهرب الذي سيقلنا إلى مينسك. 

كان البرد ينخر أجسادنا، جمعنا الأغصان اليابسة لإشعالها، وسرى شيء من الدفء ليوقظ الحنين، ويعلو صوت «خليفة» بالغناء: «من مفرق جاسم للصنمين ... حاجه تهلي الدمع يا عين... عالبال بعدك يا سهل حوران».. وينتهي الغناء بكلمات: سقى الله، وآخ، ويا حيف. 
_ _

وصل المهرب، وانطلقنا.

بعد ساعات من الراحة في مينسك تابعنا إلى الحدود البولندية، وهنا بدأت رحلة الصراع مع الموت: مستنقعات وثلوج وغابات، ولا ملامح لفرج قريب. ومع تباطؤ خطواتنا توقف أحمد عن المشي وصرخ بألم: «تابعوا الطريق بدوني، لن أكمل، سأحاول أن أعود». 

توقفنا جميعاً صامتين. بعد لحظات، ودون أي مقدمات سرت نحوه وحملته على ظهري، ومشيت.

هِمّة بُعثت من جديد، تولى محمود حقائبنا، بينما راح خليفة يستكشف الطريق ويقودنا، حتى بلغنا مرتفعاً أزلنا عنه ما استطعنا من الثلوج، ورحنا نضمد جراحنا ونبدل ثيابنا المبتلة، ونأكل بقايا ما اقتصدناه من طعام، وصوت خليفة يشدو: يا حيف.. يا حيف.. ثم يتوقف ضاحكاً ليقول: «شو يا أحمد والله إبن السويدا حملك على ضهره؟».

  • هذا دين برقبتي ما بنساه. 
  • بعد ما نوصل أوروبا ما يعود ينفع السداد. 
  • الدنيا دين ووفا يا أبو حميد، دينك واصل من زمان وذمتك بريئة، أنا يلي عم يوفي دينه.
  • ومين محملك هالدينة خليل؟

حدثتهم عن صديقي ابن عائلة الزعبي الذي حملني في أصعب الظروف:

كنت قد التقيته في البحر بعد أن غادرنا السواحل التركية نقصد اليونان. تعطل «البلم» بعد مسافة قصيرة، وبدأنا القفز إلى الماء، واختلط الصراخ بالبكاء بأصوات اصطدام أجسادنا بالمياه. لحظات لا تحتمل التفكير، الكل يسبح مبتعداً عن «البلم»، والزعبي يصرخ بالشباب أن يجروا «البلم» بالنساء والأطفال للعودة إلى الشاطئ، وهنا كان لقاؤنا الأول، كنا أشبه بثورين يجرّان قارباً!

رائحة الملاحي تسبق «زلغوطة» أم خليفة عند استقبالنا: «هلا يمة ويا حيالله بالضيف» تنسيك كل الخيبات

قررت والزعبي تجربة حظنا برّاً. وبعد أيام أوصلتنا سيارة المهرب برفقة بعض المهاجرين إلى حدود اليونان البرية، وكان علينا أن نعبر عدداً من السواقي الوسخة ونهراً عريضاً. 

قبل وصول النهر وقعتُ في حفرة، وكُسرتْ قدمي. ربطناها بقطعة ملابس وبعض العصي الخشبية، وتابعت السير متكئاً على كتف الزعبي. عند بلوغنا النهر ودون أي فرصة للتفكير أو الجدال رمى الزعبي حقائبنا لأحد الرفاق، وحملني على ظهره وعبر بي.

  • ارتحت أبو حميد؟
  • والله حمل وانشال عن ضهره لأخوك أحمد 
  • وكيف اتمسكتو؟
  • انتظرنا «الدلاّل» الذي سيرسله المهرب ليقلنا إلى مدينة سالونيك اليونانية. نفد الماء والطعام لدينا، وكانت بصحبتنا عائلة سورية وأطفال. انبرى الزعبي مع أحد أفراد العائلة لجلب الماء والطعام من قرية مجاورة، وفي أقل من ساعة كانت شرطة الحدود اليونانية تلقي القبض علينا وتسوقنا إلى مركز للشرطة. أما الزعبي فعلمتُ من المهرب بعدما أعادونا عراة من اللباس والمال وأجهزة الاتصال، أنه حاول الهرب منهم أثناء شرائه الماء والطعام، فألقوا القبض عليه وسجنوه، ومنذ ذلك التاريخ لا أعلاف عنه أي شيء.
  • يا الله كم عذاب يمر وكم عذاب باقي.. والله كنّا مبسوطين يا رجال.. شو هالبلوة يلي صابتنا؟
  • مؤامرة كونية 
  • إحنا مش أكثر من بيادق وأرقام منسية، تموت بالبحر بالنهر بالغابة بالثلج، ماحد يبكيك غير أُمك.

_ _

الفجر يشق الظلام لنكتشف أننا على بعد أمتار من الشريط البولندي الذي تغطيه الثلوج؛ علينا أن نعبره نحو «الحلم».

لم نصدق كيف تجاوزنا الشريط دون توقف أو نظرة إلى الخلف. وصلنا طريقاً معبداً أزيلت الثلوج عنه منذ وقت قصير. فجأة وصلت سيارة للجيش البولندي وأقلتنا إلى مخفر حدودي، وقّعنا، وبصمنا، وأحضر لنا أحد رجال الشرطة بعض الطعام والسجائر مقابل مئة دولار، ثم وضعونا في سيارة وأقلونا عبر حاجز عسكري إلى منطقة أخرى حيث استلمتنا دورية ثانية وأخذتنا إلى السجن.

لم نفهم شيئاً من أحاديثهم، ولكن حفلة من الضرب المبرح جعلتنا نكتشف أنهم أعادونا إلى بيلاروسيا، بعدما سجلونا لاجئين لديهم!

_ _

في العاصمة البيلاروسية مينسك قضينا أياماً في شقة صغيرة، قبل أن أقرر وخليفة العودة إلى سوريا بعد أن نفد مالنا وصبرنا. غادرنا إلى إسطنبول، ثم بيروت، ومنها تهريباً إلى «الوطن».
_ _

قبل سنوات وفي بداية الأحداث قال لي أحد الأصدقاء الوافدين من داعل مازحاً:  «شوف يا صديقي صرنا أكثر منكو بالسويدا، بدنا نعين مختار ورئيس بلدية من عندنا».

  • ومن وين بدنا نجبلهن موافقات أمنية؟
  • المشايخ عندنا وعندكو بدبروها.

اليوم وفي طريق عودتنا من لبنان إلى داعل - مدينة صديقي خليفة - رحت أحصي عدد أصدقائي في هذه المدينة.. 

سيارة أبو سومر تنساب مسرعة عبر الحواجز من حمص إلى درعا دون توقف أو تفتيش. وهناك رائحة الملاحي تسبق «زلغوطة» أم خليفة عند استقبالنا: «هلا يمة ويا حيالله بالضيف» تنسيك كل الخيبات، وتشعرك أن أم خليفة، وأم خليل، ومثيلاتهما هن الوطن.

بعد وجبة الملاحي سألني أحد المضيفين: «ها أخوي خليل ماكلتلي أنهو الأطيب الملاحي؟ أم الملاحية»؟

 وقبل أن أجيب امتدت إليّ يد خليفة بسيجارة، فأجبته ضاحكاً: «والله الأطيب هو السيجارة بعد الملاحي».


Share!

لا يتبنى «صوت سوري» أي توجه مسيس للملف السوري ولا تقف وراءه أي جهة سياسية.
نحن نراهن على دعمك لنا في الوصول إلى جميع السوريين والسوريات.

إذا رأيت أن خطابنا يستحق الوصول انشري / انشر هذا المقال من فضلك

لديك تصويب أو ملاحظة؟ تفضل/ي بالتعرف إلى محررة القراء والتواصل معها