غريب أ.باشا
الصورة: (معبر جوسية الرابط بين قرية جوسية في ريف حمص الجنوبي الغربي وقرى القاع في لبنان)
أخيراً وصل يوسف وعائلته إلى مدينة بنّش بريف إدلب الشمالي الشرقي، بعد رحلة شاقة استمرت أيّاماً عديدة منذ فرّت الأسرة من منطقة البقاع الغربي في لبنان، على وقع القصف الإسرائيلي المستمر.
يشرح يوسف (55 عاماً) أنّه استعان بمكتب سفريات يُنظم رحلاتٍ عبر طرق التهريب. حجز الرجل دوراً لعائلته قبل نحو خمسة عشر يوماً من موعد الرحلة التي انطلقت من بيروت إلى الحدود السورية، ثم عبرت من خلال منافذ التهريب نحو ريف حمص الغربي، ثمّ إلى حماة، فريف حلب، وصولاً إلى معبر الدادات شرقي جرابلس، لتعبر العائلة نحو اعزاز في ريف حلب الشمالي، ثم إلى محافظة إدلب.
يقول يوسف إن الحركة داخل مناطق سيطرة دمشق تكون عبر الحواجز، ومن دون الحاجة إلى موافقات أمنيّة بفضل الرشى التي يدفعها المكتب، أما الدخول إلى مناطق سيطرة المعارضة في الشمال فتتطلّب موافقة أمنية مُسبقة من قِبل «الشرطة العسكرية» التي تتبع «الجيش الوطني» وتدير معبر الدادات، ولهذه الغاية يتوجّب الحجز المسبق، إذ يضمن المكتب الحصول على الموافقة قبل أن تنطلق الرحلة.
قبل نحو شهرين كان يوسف قد زار مدينته (بنّش) عبر المسار نفسه، وأنجز بعض الأعمال قبل العودة إلى لبنان حيث يقيم مع عائلته منذ 10 سنوات. لم يكن الرجل وقتها يتخيّل أن الحرب ستستعر بهذه الطريقة، ويضطر إلى النزوح العكسي مع عائلته. يقول: «كنت قد استطعت أن أجد عملاً مناسباً في لبنان، وتعودنا على الإقامة هناك. لم نكن نفكر في العودة، على الأقل في الوقت الراهن»، لكنّ السعي إلى النجاة دفع يوسف إلى إنهاء كل شيء، والفرار بعائلته. «الآن ننزح من حرب إلى حرب»، يضيف.
مسارٌ قديم.. «يزدهر»
بدأت حركة «النزوح العكسيّ» من لبنان الى إدلب منذ أعوام، مع تفاقم مخاوف الترحيل إلى سوريا، لا سيّما من قبل الشبّان المطلوبين أمنيّاً، أو للخدمة العسكريّة الإلزاميّة.
لا تختلف الطرق التي كان أولئك الشبان يسلكونها عن طرق الفرار من الحرب التي باتت العائلات تخوضها حاملة أقلّ قدرٍ ممكن من الحاجات، لوعورة الرحلة، والاضطرار إلى تغيير وسائط النقل مرات عديدة.
«يتسابق المهربون علينا وكأننا صيد ثمين، فيعرضون خدماتهم بأسعار تنافسيّة»، تقول حسناء (44 عاماً) وهي مهجرة دمشق، عادت من لبنان إلى إدلب قبل أسبوع، لتأوي إلى منزل ابنتها التي زُفّت العام الماضي عبر طرق التهريب ذاتها إلى عريسها المقيم في بلدة الفوعة بريف إدلب.
قطعت حسناء الرحلة الشاقة وبرفقتها طفلاها، بينما بقي زوجها في لبنان مفضّلاً التريث قليلاً، على أمل أن تتوقف الحرب هناك ولا يخسر منزله وعمله الذي بدأه منذ نحو أحد عشر عاماً. تقول السيدة «كنا نقيم في منطقة البقاع الأوسط، لم يستهدفنا الطيران الإسرائيلي هناك، لكننا نسمع هدير الطائرات وأصوات القصف باستمرار».
يؤكد صاحب مكتب سفريّات في إدلب أن «وتيرة الرحلات من بيروت إلى إدلب زادت بشكل ملحوظ»، موضحاً أن بعض المهربين «يستغلّون الفارّين عبر إغرائهم بأسعار أقل، إلا أن الطريق في هذه الحالة قد يكون أكثر خطورة، وبدون الحصول على الموافقة الأمنية؛ وهذا يُفسر مكوث بعض النازحين أيّاماً عند معبر الدادات قبل السماح لهم بالدخول».
الحركة داخل مناطق سيطرة دمشق عبر الحواجز، بفضل الرشى، أما العبور إلى الشمال فيتطلّب موافقة أمنية مُسبقة من قِبل «الشرطة العسكرية» التي تتبع «الجيش الوطني»
المفارقة أن السعر الأقل لا يشكل عامل جذبٍ، بل يثير المخاوف. تشرح حسناء: «نختار الرحلة التي يرتفع سعرها أملاً بخطورة أقل، لأن المهرب إذا اُعطي سعراً أعلى قد يبيعنا».
وتتطلّب الإجراءات «تثبيت الحجز» قبل 12 يوماً من الرحلة على الأقل، وبعد حصول المكتب على الموافقات اللازمة تنطلق الرحلة، وتبلغ تكلفة الفرد الواحد من الأطفال والسيدات وكبار السن 350 دولاراً وسطيّاً، بينما ترتفع تكلفة الشبان إلى الضعف تقريباً، لا سيما المتخلفون عن أداء الخدمة العسكرية، والمطلوبون إلى جهات أمنيّة.
ملاذات النازحين
تتنوّع «وجهات الاضطرار» التي تسلكها العائلات الهاربة من لبنان إلى الشمال السوري، تبعاً لظروف كل عائلة، فيقصد بعضها بيوت أقراب وأصدقاء، بينما يضطر بعضها الآخر إلى خوض رحلة عذاب جديدة عرّابوها أصحاب المكاتب العقارية بحثاً عن منزل للإيجار. يحدث هذا رغم أن بعض الأسر تمتلك بيوتاً ما زالت قائمة في محافظة إدلب، لكنها تقع على خطوط تماس، أو في مناطق عادت إلى سيطرة دمشق، بينما دُمرت بيوت عائلات أخرى، أو بيعت للاستفادة من ثمنها في لبنان.
«الأسعار هنا مثل لبنان، إلا أن فرص العمل والأجور أقل بكثير»، يقول أسامة (27 عاماً). لم يكن الشاب يتخيل أنه سيبتعد عن عائلته بعد أن تحمل ظروف المعيشة الصعبة، وبعض التصرفات العنصرية أحياناً حيث كان يقيم في إحدى القرى الجنوبية بلبنان.
مع تصاعد الاعتداءات الإسرائيلية قررت العائلة العودة لترميم منزلها في ريف دمشق، بينما لم يستطع أسامة مرافقة أهله لكونه مطلوباً للالتحاق بالخدمة العسكريّة، وهكذا قرّر الاتجاه إلى إدلب.
بعد وصوله أقام أسامة مع بعض أصدقائه في منزل على أطراف مدينة إدلب، بدأ التفتيش عن عمل مع مشارفة نقوده القليلة على النفاد، خاصة أنه تكلّف 700 دولار مقابل رحلته إلى إدلب. «في لبنان كنت أعمل وأُعيل أسرتي، أما هنا فسأكون محظوظاً إن استطعت توفير قوت يومي»، قال أسامة.
خيارات أخرى
كانت سلطات دمشق قد أعلنت أنّ «40 عائلة سورية قادمة من لبنان دخلت باتجاه ريف إدلب» الواقع تحت سيطرتها.
ووفق صحيفة الوطن السورية، تجاوز عدد السوريين العائدين رسميّاً 226 ألفاً، فيما تجاوز عدد النازحين اللبنانيين إلى سوريا 82 ألفاً. وقصف الطيران الإسرائيلي قبل أيام المعبر الحدودي الرئيس بين سوريا ولبنان (المصنع)، ما فاقم مصاعب العبور مع تعذر مرور السيارات بين النقطتين الحدوديتين.
من جهته يقول الصحفي سلطان الأطرش، وهو مهجر من خان شيخون، إن أعداد العائلات النازحة إلى ريف إدلب الجنوبي في ازدياد. وبحسب تقديرات محلية فقد وصل نحو 100 عائلة من أبناء المنطقة، شرع بعضهم بمحاولات ترميم منازلهم التي تركوها منذ أكثر من 5 أعوام جراء هجمات النظام عليها، وتعاني هذه المناطق من نقص حاد في الخدمات والافتقار للبنية التحتية.
فيما أكّد بيان لفريق «منسقو استجابة سوريا» أن «عدد الوافدين من لبنان من اللاجئين السوريين إلى الشمال السوري خلال المدة الممتدة من تموز وحتى نهاية أيلول، بلغ حتى الآن 1,867 لاجئاً»، مع توقعات بزيادة الأعداد خلال الأيام القادمة.
وطالب الفريق كلّ المنظمات الإنسانية العاملة في المنطقة بـ «التحرك الفعلي لمساعدة النازحين واللاجئين الوافدين إلى المنطقة واتخاذ التدابير اللازمة لتأمين الدعم اللازم في ظل المخاوف من زيادة أعداد اللاجئين والنازحين في المنطقة، لا سيما مع زيادة أعداد السكان ووصول المنطقة إلى الطاقة الاستيعابية القصوى».
كما حثّ البيان الجهات المحلية على «منع استغلال المدنيين من خلال ضبط عمليات الإيجارات التي تشهد زيادة باهظة تفوق قدرة المدنيين المالية في ظل الأوضاع الحالية».
لديك تصويب أو ملاحظة؟ تفضل/ي بالتعرف إلى محررة القراء والتواصل معها
This work
by
SOT SY
is licensed under
CC BY-ND 4.0