غريب أ.باشا
الرسم: (لوحة بعنوان «النزوح» من معرض للفنانة السورية عروبة ديب في بلجيكا/Claude-فليكر)
ثلاثة أيام بلياليها قضاها غسان في رحلة محفوفة بالمخاطر انتقل خلالها من منطقة البقاع اللبنانية إلى محافظة إدلب. قرر غسان (26 عاماً)، وهو من ريف دمشق ولاجئ في لبنان منذ 2017، العودة إلى إدلب في رحلة عبر الحدود تنوعت وسائلها بين السير على الأقدام ليلاً ونهاراً، وركوب دراجة نارية وسيارات وحافلات تارة، وأخرى في صناديق نقل البضاعة.
«المضايقات الأمنية مع عدم قدرتي على تجديد أوراق الإقامة، وخوفي من السوق إلى الخدمة العسكرية في حال عودتي إلى مناطق النظام في سوريا»، بهذه الكلمات يلخص الشاب الأسباب التي دفعته إلى الانتقال متجاهلاً خطورة الطريق وخسارته مشروع عمله الذي كدّ سنوات لتأسيسه، فضلاً عن بيعه أغراض منزله وبضاعته بأثمان بخسة، وتكبّده تكلفة الطريق وابتعاده عن زوجته وأطفاله الذين أرسلهم إلى ريف دمشق قبل سفره.
رحلة خطرة
مهند (27 عاماً) شاب آخر من ريف درعا ولاجئ في لبنان منذ 2018، وقد رافق غسان في أثناء رحلته. يروي الشابان تفاصيل الرحلة التي بدأت في التاسعة ليلاً عندما صعدا سيارة من نوع «فان» برفقة عدد من الشباب وانطلقت من بيروت باتجاه الحدود السورية لتعبر تهريباً.
يقول مهند: «كنا نمر عبر حواجز للنظام سيراً على الأقدام أو بدراجات نارية... حرص المهربون على رمي جميع أمتعتنا، وكنا ندفع الرشوة لعناصر الحاجز بعدما كان المهرب قد دفع لقادتهم ونسق معهم لعبورنا في وقت سابق».
أما غسان، فيؤكد أن معظم الحواجز التي مروا عليها كانوا يرشون عناصرها على اختلاف تبعيتها والمناطق المنتشرة فيها سواء في مناطق سيطرة دمشق أو المجموعات المعارضة أو الإدارة الذاتية. ويستدرك: «يكفي أن يختلف المهرب مع قائد حاجز أو أن تتغير المجموعة المناوبة لنكون معرضين للاختطاف أو الاعتقال».
التكلفة
يشرح دريد، وهو مدير مكتب سفريات في إدلب ويعمل في تسيير رحلات من لبنان ومحافظات سورية إلى إدلب بشكل شبه أسبوعي، أن هذه الرحلات معقدة ويجب التواصل مع جميع الأطراف المسيطرة على مناطق مختلفة.
تبدأ أجور النقل للشباب المتخلفين عن الخدمة العسكرية أو المطلوبين لأي جهة أمنية في المنطقة من 600 دولار أميركي وصولاً إلى 800 للشخص الواحد، وذلك تبعاً لاختلاف الوسيط أو طبيعة المشكلات الأمنية، فيما تبلغ أجور النقل لغير المطلوبين والنساء نحو 400 دولار، في حين أن أجور نقل كل ثلاثة أطفال أعمارهم أقل من عشر سنوات تعادل أجرة راكب واحد، وفق دريد.
لا إحصاءات رسمية لأعداد الوافدين لكن مكاتب السفريات تعلن دائماً وصول ركاب جدد عبر مجموعات التواصل الاجتماعي خلال رحلات أسبوعية. وبحسب التقديرات الحكومية اللبنانية ثمة 1,5 مليون لاجئ سوري يعيشون في لبنان، 90% منهم يعانون الفقر المدقع.
يفضل بعض العائدين من لبنان التوجه إلى إدلب، لأسباب عديدة تجعلها «أهون الشرور»، أما المرحلون من تركيا فلا يملكون خياراً
بين وقت وآخر، تُعلن السلطات اللبنانية عن تنظيم قوافل «عودة طوعية» بالتنسيق بين الأمن العام اللبناني، والجهات الأمنية السورية، فيما تعبر «مفوضية اللاجئين» أن العودة قرار يتخذه اللاجئون بأنفسهم، و«تقدم بعض الدعم للّاجئين الّذين اتّخذوا بأنفسهم قرار العودة». عبرت آخر تلك القوافل قبل أيام، وضمّت نحو 300 لاجئ، وفق ما أُعلن.
بطبيعة الحال يتحاشى المطلوبون أمنيّاً، أو المتخلفون عن الخدمة العسكرية الإلزامية العودة ضمن هذه القوافل، فضلاً عمّن يرفضون العودة إلى مناطق سيطرة دمشق لأسباب شتّى، مثل المخاوف الأمنية، أو المواقف السياسية، أو الوضع الاقتصادي المتردي
ترحيل قسري
وجد محمد مصطفى، وهو من مدينة حمص ولاجئ في تركيا منذ 2021، نفسه بين ليلة وضحاها على معبر باب الهوى الحدودي من جهة محافظة إدلب، بعد اعتقال قوات الأمن التركية له في أثناء انتقاله من ولاية إلى أخرى.
«كنت عاملاً في الإنشاءات بأجرة يومية لا تقل عن 600 ليرة تركية، وبعد ترحيلي إلى إدلب لا أكاد أعمل أسبوعين متقطعين طوال الشهر بأجر لا يتجاوز 1000 ليرة»، يوضح محمد. ويضيف الشاب (34 عاماً) أنه فكر بالعودة إلى تركيا عبر طرق التهريب لكنه لم يفعل بسبب ارتفاع التكلفة وصعوبة الرحلة، ما دفعه إلى الاستقرار في إدلب نظراً إلى انخفاض تكاليف الحياة مقارنة بتركيا.
وتصاعدت في العامين الأخيرين الضغوط الأمنية على السوريين في تركيا، وتكررت حالات الترحيل القسري، من دون أن تشكل حيازة السوريين وثائق قانونية فارقاً جوهريّاً في بعض الأحيان. ووثّق «المرصد السوري لحقوق الإنسان» منذ مطلع العام الجاري ترحيل 417 لاجئاً سورياً قسراً من معابر حدودية عدة بين سوريا وتركيا، غالبيتهم يحملون الأوراق الثبوتية وبطاقة الحماية المؤقتة.
الوضع الراهن في إدلب
يعدّ تردي الأوضاع المعيشية للاجئين السوريين في دول الجوار (لبنان وتركيا)، والمضايقات الأمنية التي يتعرضون، من أبرز العوامل التي دفعت العشرات إلى المغادرة، فيما تشكل إدلب خياراً جيداً في نظر البعض لأسباب لعل أبرزها انخفاض تكلفة الطريق مقارنة بالهجرة إلى الدول الأوروبية أو مناطق أخرى، كما لا يتعرض قاطنوها لملاحقات أو مضايقات أمنية في حال لم يحتكوا بسلطات الأمر الواقع التي تدير المنطقة.
مع حلول شيء من الهدوء النسبي في المنطقة في الأعوام الأخيرة، ظهرت حركة استثمار جيدة ولا سيما بعد انتهاء الاقتتال الداخلي لمصلحة فصيل واحد هو «هيئة تحرير الشام»، التي حفزت بدورها كثيرين لافتتاح مشاريع تجارية حققت نجاحاً مع زيادة عدد السكان، ولكون المنطقة سوقاً مفتوحاً على تركيا ومنها إلى السوق الأوروبية.
لكن النشاط الاقتصادي بقي مقتصراً على رؤوس الأموال التي لا تشكل سوى نسبة قليلة، فيما وصلت معدلات البطالة بين المدنيين إلى 88,74% بشكل وسطي بما يشمل عمال المياومة، وفق ما وثق فريق «منسقو استجابة سوريا» في شهر شباط الماضي. كما تجاوز حد الفقر أكثر من 90% مع اضمحلال الطبقة المتوسطة في المجتمع، وتحول المجتمع المحلي إلى طبقتين بينها فجوة واسعة تزداد يومياً.
وتشهد إدلب في المدة الأخيرة اضطرابات متزايدة، مع خروج مظاهرات ضد «تحرير الشام»، وزعيمها أبي محمد الجولاني، الذي يتحكم بالمنطقة وفق نظام متشعب، وانتقلت «الهيئة» من محاولات امتصاص الشارع إلى قمع التظاهرات بالعنف، مع بقاء الوضع مفتوحاً على مختلف الاحتمالات.
لديك تصويب أو ملاحظة؟ تفضل/ي بالتعرف إلى محررة القراء والتواصل معها
This work
by
SOT SY
is licensed under
CC BY-ND 4.0