صوت سوري
الصورة: (Federico Verani - flickr)
في المجازات، كانت الحيطان صفحات شديدة الأهمية في حيواتنا، على الأرجح أنها لا تزال كذلك برغم العدد الهائل من الحيطان التي دُمرت على امتداد السنوات الماضية.
«الحيطان دفاتر المجانين».. جميعنا يحفظ هذا القول، وكثُرٌ منّا استخدموه ولو مرةً على الأقل، أليس كذلك؟ لكن هذا القول المأثور لم يمنع استخدام الجدران السورية لكتابة الشعارات، وحشد الولاءات، أو استجلاب الخشوع، واستنهاض الهمم، وتهديد الأمم، أو المطالبة بعدم التبوّل، أو رمي الأوساخ، إضافة إلى التغزل ببنات الجيران والحبيبات المجهولات. (شخصياً لا أتذكر أنني قرأت عبارة على دفاتر حيطاننا توحي بأن أنثى قد خطّتها، أيكون هذا الفعل ذكورياً بحتاً؟)
ودفاتر الحيطان أنواع، منها ما هو «عام»، كُتبت صفحاته جهاراً نهاراً، بلا وجل أو خجل، ومحتواه في الغالب الأعم موجّه لمخاطبة «الرأي العام»، نتذكر هنا حيطان المدارس، والثكنات، والفروع، والمعسكرات... إلخ.
هناك أيضاً نوع من دفاتر الحيطان، يشبه التدوين بأسماء مستعارة، أو بلا أسماء. وهذه تكثر في الأحياء الشعبية، والشوارع الفرعية، ومضامينها تتنوع بشكل كبير، من تدوينات الرجل الخطّاط وأمثاله، إلى بوح العشّاق المجهولين، إلى الغيورين على نظافة هذه الحارة أو تلك.
النوع «الأخطر» هو ذاك الذي قد يودي بحياة كاتبه، أحياناً بسبب مضامينه، وأحيانا أخرى بسبب التجرؤ على فعل الكتابة فقط. أحد زملائنا العاملين في المجال الإغاثي تم تقييده يومين كاملين بسبب اكتشاف سجّانه أنه حاول قتل الوقت بحفر بعض الكلمات والرسومات - التي يبرع فيها - على جدار زنزانته المنفردة. الزميل إياه كان قد ذاق الاعتقال مرات عديدة، منها ما كان في «حضن الوطن»، ومنها ما كان في «كنف الفصائل الثورية»، قبل أن ينتهي به المطاف معتزلاً وهارباً من الجغرافيا السورية، إلى بلاد تسمّي المجانين أمثاله «فنّاني غرافيك».
في الملف:
دفتر العلامات في المدرسة، كان أداة بعضنا لجرح البعض الآخر، ووسيلة للاستهزاء بـ«الخصوم»، كان سوطاً لا يرحم في لعبة الثواب والعقاب. صحيح أنه لم يكن سيفاً، ولا بندقية، لكنه لم يكن أقل خطراً، كان آلية تفكير حطمت الأمل في اتكاء الأكتاف بعضها على بعض.
بعد سنوات من رحلات النزوح والهرب المتواصل من الموت، وبعد أن هدأت وتيرة الحرب في مدينتي، زرت منزلنا. لم أجده مهدماً كما كنت أظن، كان يقف بين مجموعة منازل مدمرة، وكأن قوّةً ما حرسته، لكن تلك القوة لم تقدر على منع اللصوص من سرقته.
دفاتر البونات تلك، هي السلف الصالح للبطاقة الذكية هذه اﻷيام، وتتكون من أوراق ملونة قليلة السماكة، رديئة الصنع، عليها أرقام متسلسلة، تضمن حصتنا من الرز والسكر والشاي والمحارم، واﻷفراح المؤجّلة، موزّعة على أشهر العمر.
في ظل ارتفاع نسبة العاطلين عن العمل، إلى جانب التدهور الاقتصادي الذي تعاني منه مختلف طبقات المجتمع السوري، تبرز دفاتر الدين بوصفها حلاً لا بدّ منه لتوفير الاحتياجات اليومية في ريف حلب الشمالي، غير أن هذا الحل ليس سهلاً أو متاحاً للجميع، خاصة لأصحاب الدخل غير المنتظم، أو المُهجرين من مناطق أخرى.
حين تسأل سوريّاً عن علاقته بالدفاتر، فليس بالضرورة أن تخطر في باله دفاتر المدرسة، ولا حتى دفاتر الديون، ثمة دفاتر أخرى كثيرة تفرض نفسها هنا، من بينها على وجه الخصوص «دفتر العسكرية»، ودفتر العائلة.
كنا نحن الطلاب أشبه بالآلات الكاتبة، علينا أن ندون كل ما يُكتب على السبورة، فيما كانت كمية الدفاتر والأوراق والنوتات التي نبتاعها من المكتبات المتناثرة قرب الجامعة تثير الرعب، بكل معنى الكلمة.
حين سافرت خارج بلادنا العزيزة، وجدت عشرات اﻷنواع من ورق اللف، وكثير منها ذو نوعية جيدة، لكن أيّاً منها لا يعد بجائزة، ولا يضع قصائد عصماء في مديح التبغ، أو ينصح بالعض الدائم للسيجارة الملفوفة، ولا يطالب بمعاضدة المصنوعات الوطنية.
لا يتبنى «صوت سوري» أي توجه مسيس للملف السوري ولا تقف وراءه أي جهة سياسية.
نحن نراهن على دعمك لنا في الوصول إلى جميع السوريين والسوريات.